عن الإنتحار..
من العجيب أن التقدم الذي جاء بمزيد من وسائل الترف والراحة، وبمزيد من التسهيلات للإنسان، قد قابله الإنسان بمزيد من الرفض والسخط والتبرم، فرأينا إحصائيات الإنتحار ترتفع مع مؤشرات التقدم في كل بلد، كلما ازداد البلد مدنيةً ازداد عدد الذين يطلقون على أنفسهم الرصاص ويلقون بأنفسهم من النوافذ ويبتلعون السم ويشربون ماء النار… هذا غير الإنتحار المستتر بالخمور و المخدرات والتدخين والمنومات والمسكنات والمنبهات… وفي مقدمة هؤلاء المنتحرين طلائع فن وفكر وثقافة تعود الناس أن يأخذوا عنهم الحكمة والعلم والتوجيه.
ووصلت الموجة إلى بلادنا فامتلأت أعمدة الصحف بأخبار ابتلاع السم والشنق والحرق، وقال المختصون أن نسبة الزيادة الإحصائية تجاوزت العشرين في المائة، و هو رقم كبير.
والإزدياد متواصل سنة بعد سنة.
والسؤال: لماذا؟ وما السر؟
وما سبب الإنتحار؟
وإذا تركنا التفاصيل جانباً وحاولنا تأصيل المشكلة وجدنا جميع أسباب الإنتحار تنتهي إلى سبب واحد، أننا أمام إنسان خابت توقعاته ولم يعد يجد في نفسه العزم أو الهمة أو الإستعداد للمصالحة مع الواقع الجديد أو الصبر على الواقع القديم.
إنها لحظة نفاذ طاقة ونفاذ صبر ونفاذ حيلة ونفاذ عزم.
لحظة إلقاء سلاح.. يأس، ما يلبث أن ينقلب إلى اتهام وإدانة للآخرين وللدنيا، ثم عداوة للنفس وللآخرين وللدنيا تظل تتصاعد وتتفاقم حتى تتحول إلى حرب من نوع مختلف يعلنها الواحد على نفسه ويشنها على باطنه، و في لحظة ذروة تلتقط يده السلاح لتقتلع المشكلة من جذورها، ولتقتلع معها الإحساس المرير وذلك بطمس العين التي تبصر وقطع اللسان الذي يذوق وتحطيم الدماغ الذي يفكر وتدمير اليد التي تفعل والقدم الذي يمشي.
وهو نوع من الإنفراد بالرأي والإنفراد بالحل ومصادرة جميع الآراء الأخرى، بل إنكار أحقية كل وجود آخر غير الذات.
ولهذا كانت لحظة الإنتحار تتضمن بالضرورة الكفر بالله وإنكاره وإنكار فضله واليأس من رحمته واتهامه في صنعته وفي عدله، ورفض أياديه ورفض أحكامه ورفض تدخله.
فهي لحظة كبر وعلو وغطرسة واستبداد.
وليست لحظة ضعف وبؤس وانكسار.
وبدون هذا العلو والكبر والغطرسة لا يمكن أن يحدث الإنتحار أبدا.
فالإنسان لا ينتحر إلا في لحظة دكتاتورية مطلقة وتعصب أعمى لا يرى فيه إلا نفسه.
والإنتحار في صميمه اعتزاز بالنفس وتأله ومنازعة الله في ربوبيته.
والمنتحر يختار نفسه ويصادر كل أنواع الوجود الآخر في لحظة غل مطلق، في لحظة جحيم..
ولهذا يقول الله أن من قتل نفسه يهوي إلى جحيم أبدي، لأنه قد اختار الغل وانتصر للغل وأخذ جانب الغل عند الإختيار النهائي للمصير.
والإنفراد المطلق في الرأي عصبية وغل ونارية إبليسية، والنفس المتكبرة الأمارة بالسوء هي نار محضة وظلمة.
وكل منا في داخله عدة احتمالات لنفوس متعددة، في داخل كل منا نفس أمارة ظلمانية توسوس له بالشر والشهوات، ونفس لوامة نورانية تحضه على الخير ثم كل المراتب النفسية علواً وسفلاً فوق وتحت هاتين المنزلتين.
وكل نفس في حالة تذبذب مستمر بين هذه المراتب صاعدة هابطة، فهي حيناً ترتفع إلى آفاق ملهمة وحيناً تهبط إلى مهاو مظلمة شهوانية.
ثم في النهاية تستقر، فإذا استقرت على الرفض والكبر والغطرسة والغل ثم اقتلعت أسنانها ولسانها وسمعها وبصرها وقطعت رقبتها في غل نهائي لا مراجعة فيه، هي قد اختارت الجحيم بالفعل، بل إنها في ذاتها قبضة نار لا مكان لها إلا في الجحيم.
(ناراً وقودها الناس والحجارة).
يقول ربنا إن هذه النفوس هي وقود النار وجمراتها ومصدر الطاقة النارية فيها، ومعنى هذا أنها أشد نارية من النار.
والمنتحر يتصور أنه سوف يتخلص من نفسه، ولكن لا خلاص و لا مهرب لإنسان من ذاته، فهو لن يخرج بالإنتحار إلى راحة، بل هو خارج من النار الصغرى إلى النار الكبرى، ومن النار الزمنية إلى النار الأبدية.
ولنتجنب هذا المصير فإننا لا بد أن نتجنب المشكلة أصلاً.
والمشكلة أصلاً هي التعلق، ومن ليس له تعلق بشيء لا ينتحر لشيء.
ولا يجوز عند المؤمنين تعلق إلا بالله، فهو وحده جامع الكمالات، الدائم الباقي الذي لا يتغير ولا تخيب عنده التوقعات ولا تضيع الآمال.
والله هو المحبوب وحده على وجه الأصالة وما نحب في الآخرين إلا تجلياته وأنواره، فجمال الوجوه من نوره وحنان القلوب من حنانه، فنحن لا نملك من أنفسنا شيئاً إلا بقدر ما يخلع علينا سيدنا ومولانا من أنواره وأسمائه.
فنحن لا نحب في بعضنا إلا هو.
وهو حاضر لا يغيب ولا يهجر ولا يغدر ولا يغلق بابه في وجه لاجىء، ولا يطرد من رحابه ملهوف.
فالواقفون عنده مطمئنون راضون ناعمون لا يخطر لهم الإنتحار على بال سعداء في جميع الأحوال.
إنما ينتحر الذي تعلق بغيره.
الذي تعلق بليلاه و معشوقته وظن أن جمالها منها فتعلق بها لذاتها تعلق عبادة، وأصبح يتوقع منها ما يتوقع عبد من معبود وربط نفسه بها رباط مصير. ونسى أنها ناقصة كسائر الخلق ومحل للتغير و التبدل تتداول عليها الأحوال والتقلبات فتكره اليوم ما أحبته بالأمس، وتزهد غداً فيما عشقته اليوم.
ونسى أن جمالها مستعار من خالقها وأنها إعارة لأجل، وحينما ينتهي الأجل ستعود أقبح من القبح.
مثل هذا الرجل المحجوب الغافل إذا أفاق على الصحوة المريرة وفاجأه الغدر والتحول، يشعر شعور من فقد كل رصيده وأفلس إفلاس الموت ولم يبق له إلا الإنتحار.
ولو أنه رأى جمالها من خالقها لأحب فيها إبداع صنعة الصانع ولكان من أهل التسبيح الذين يقولون عند رؤية كل زهرة، الله.. فإذا رأوها في آخر النهار ذابلة، قالوا حقاً لا إله إلا الله.. فحبهم لله و في الله وروابطهم روابط مودة ومعروف لا مقصد لها ولا غرض ولا توقع، فالغدر لا يفاجئهم والهجر لا يصدمهم وشأنهم كما يقول المثل العامي: “اعمل الخير وارميه فالبحر”، يبسطون أيديهم بالمعونة دون حساب لأي عائد ودون توقع لثمرة.
هؤلاء هم أهل السلامة دائماً.
وهم أهل الطمأنينة والسكينة لا تزلزلهم الزلازل ولا تحركهم النوازل.
هم أهل الطمأنينة اليوم.
وهم أهل الطمأنينة يوم الفزع الأكبر، يوم لا تملك نفس لنفس شيئا، ويوم لا ينفع مال ولا بنون.
وهؤلاء لا يتعلقون إلا بالله.
ولا يؤملون إلا في الله.
ولا يتوقعون إلا من الله.
إن المشكلة هي بالدرجة الأولى مشكلة إيمان، فكلما وضعت التكنولوجيا في يد الإنسان قوة وثروة واستغناء ازداد بعداً وغروراً وكبراً وتمرداً، وازداد تعلقاً وارتباطاً بالأصنام المادية التي خلقها، وازداد خضوعاً للملذات التي يسرها لنفسه، وتصور أن قوته سوف تعصمه وعلمه سوف يحميه فأمعن في غروره.
وهل عصم الجبل ابن “نوح” من الطوفان؟!
بل كان من المغرقين.
(فلا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم).
ضع يدك في يد الله ولا تبرح، وحسبك من علاقتك بالناس أن تبذل لهم مودتك ورحمتك على غير توقع لشيء، فذلك هو قارب النجاة في عالم اليوم، عالم الإنتحار والمنتحرين.
مصطفى محمود