جمعية هيئات المحامين بالمغرب بين الصدام و الانسجام و الإصلاح

شارك هذا على :

رأي على هامش إنتخابات جمعية هيئات المحامين المرتقبة

لم تعد تفصلنا عن انتخابات جمعية هيئات المحامين بالمغرب سوى أيام قليلة ، سيتشكل من خلالها مكتب جديد و رئيس جديد ، سيعهد إليهم تدبير الشأن المهني على المستوى الوطني في ظل بروز عدة تحديات تواجهها مهنة الدفاع على المستوى الوطني و الدولي . و بالتالي فهي مناسبة عظيمة من أجل تقييم واقع مهنة المحاماة في المغرب و موقعها في ظل الإصلاحات التشريعية و المؤسساتية التي عرفها مجال العدالة بالبلاد ، و أكيد البحث عن الحلول و الاستراتيجيات المناسبة للنهوض بالمهنة بما يرسخ إستقلاليتها ووحدتها و حصانتها ، و أيضا تطويرها للقيام بأدوارها الحقوقية والقانونية و السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية و الثقافية . وهذا ما يجسد حساسية هذه المرحلة التي يتابعها أغلب رجال و نساء الدفاع باهتمام كبير و بتشاؤم واضح عند أغلبية المحامين ، و بتشاؤل بيّن و ليس تفاؤل عند الأقلية . و هذا الإنطباع ليس وليد اللحظة و إنما له عدة تراكمات من الخيبات و الإنتكاسات التي جعلت مهنة المحاماة تعيش أزمة حقيقة .
لقد مرت المحاماة منذ حصول المغرب على إستقلاله إلى الآن عدة إنتخابات و عدة مجالس ورؤساء ، و إختلفت طريقة تدبير كل مجلس و كل رئيس للشأن المهني ، إلا أن النتيجة كانت واحدة هي عجزها عن ترسيخ إطار قانوني و حقوقي رصين لمهنة المحاماة يضمن لها قوتها و إستقلاليتها و حصانتها ، بشكل يرسخ مكانتها القوية داخل المجتمع كما هو الحال في الدول الديموقراطية ، التي تعتبر مهنة المحاماة ضمانة أساسية لترسيخ دولة الحق و القانون و الحفاظ على الحريات العامة و الخاصة . بالفعل لقد إختلف تدبير المجالس المتعاقبة لجمعية هيئات المحامين بالمغرب للشأن المهني ما بين إتخاد مواقف المقاطعة و الممانعة و الصراع مع الجهات الرسمية القائمة على تدبير قطاع العدالة بالبلاد ، و بين مواقف المهادنة و التماهي و الانسجام ، فإبان ولاية مجالس الممانعة و المقاطعة كان تطور و إصلاح المهنة يعرف الكثير من الركود و الجمود الناتج عن هذا الصراع ، و لا أدل على ذلك ما أثبتته تجربة المجلس السابق برئاسة النقيب حسن وهبي الذي دخل في صراع مع وزارة العدل آنذاك التي كانت ما تزال تتحكم في الشأن القضائي و قطاع العدالة قبل أن يسحب منها البساط في تدبير هذا الشأن لفائدة المجلس الأعلى للسلطة القضائية ، و ما زاد الحرب وطيسا أن وزير العدل آنذاك لم يكن إلا المحامي مصطفى الرميد الذي تمخزن أكثر من المخزن ، و تعامل مع الجمعية و مع زملائه بنظرة مليئة بالانتقاص و التعالي و كأنه لم يولد من رحم هذه المهنة النبيلة و لا يعرف مشكلها الحقيقية . و قد عرف الصراع أوجه إبان تحضير و إعلان ميثاق إصلاح منظومة العدالة التي إعتبرته وزارة العدل بمثابة ثورة إصلاحية كبيرة في إتجاه النهوض بمجال العدالة بالمغرب . و على النقيض من ذلك إعتبرت الجمعية أن ماجاء في الميثاق من مقتضيات و لا سيما في الشق المتعلق بمهنة المحاماة كارثة حقيقة ستحل بالمهنة ، ستضرب حصانتها و إستقلاليتها لا سيما من خلال إقحام عناصر قضائية في المجالس التأديبية للمحامين بشكل سيؤثر على استقلالية المحاماة . و قد توج هذا الصراع بمسيرة الرباط التي دعت إليها الجمعية و التي إستجاب لها عدد كبير من الزملاء في مختلف ربوع المملكة من أجل التنديد بالمقتضيات التي جاء بها ميثاق إصلاح منظومة العدالة ، لما يحمله من مبادئ ستؤثر بشكل سلبي على مهنة الدفاع . لكن رغم إيجابية المسيرة النضالية و التعبئة التي أبانت عن رسوخ وحدة المحامين ووقوفهم صفا واحدا للدفاع عن مكتسباتهم الحقوقية و المهنية ، إلا أن الخيار الذي جنحت له الجمعية و رئيسها حسن وهبي يبقى سلبيا و غير سليم ، لأنها لم تشارك في إعداد الميثاق ، و تركت الكرسي فارغا ، الشيء الذي جعل وزارة العدل تعمد إلى إدخال العديد من المقتضيات الماسة سلبيا بمهنة المحاماة ، و بالفعل كانت محطة خسرت فيها مهنة الدفاع الكثير من الرهانات . خاصة أن جمعية المحامين بالمغرب لها دور أكثر من مهني ، بل إن من أهم أدوارها التي يجب أن تقوم بها هو الدور السياسي الذي يفرض عليها التعامل مع الجهات الرسمية بمنطق ما لا يدرك كله لا يترك جله ، لأنه من الصعب أن تدخل في مفاوضات تشريعية و حقوقية و سياسية من أجل الحصول على حقوق فئوية و تستطيع فرض جميع الاصلاحات التي تؤمن و تطالب بها ، و لكن كان يمكن للجمعية أن تكون أكثر حكمة و مرونة و تتعامل بمنطق سياسي موضوعي أكثر منه نضالي شكلي من أجل الحصول على مكاسب عديدة يمكنها أن تقوي من قوة و إستقلالية المحاماة ، و ما لم يدرك في حينه يمكن أن يتواصل النضال من أجل ترسيخه و تأكيده في فرص قادمة ، من الأكيد أن المستقبل و سيرورة التطور الذي تفرضه الطبيعة كفيلان بفتح المجال لفرضها و إنتزاعها ، لأن النضال هو عبارة عن عملية تراكمية تترسخ و تتأكد بالتدريج و التسلسل .
و ربما أخطاء و هفوات هذه المرحلة إستفاد منها بشكل ذكي مكتب جمعية هيئات المحامين بالمغرب الحالي ، الذي ذهب في إتجاه مختلف و متعارض مع توجه مكتب الجمعية الذي سبقه ، إذ إنه كان أكثر مرونة و تعامل بمنطق سياسي في علاقته مع الجهاز الرسمي الوصي على قطاع العدالة و مهنة المحاماة ، رغم الانتقادات التي تلقاها من طرف البعض الذي اعتبر الجمعية منبطحة خاصة في إطار علاقتها بوزارة العدل و الحريات , إلى درجة أن هناك من اعتبر أن الجمعية أصبحت مجرد ملحقة إدارية لوزارة العدل و لا تمتلك قرارها بيدها , و انه تم استغلال وجود المكتب الحالي من اجل تمرير مجموعة من القوانين التي تنتقص من حقوق و مصالح المحامين و تؤثر على الضمانات الممنوحة لرجال الدفاع من اجل ممارسة مهامهم و اختصاصاتهم بكل حرية و جرأة في اتجاه ترسيخ دورهم الحقوقي و التنموي داخل المجتمع . وبغض النظر على هده المواقف التي تكتسي في طياتها الكثير من المبالغة , إضافة إلى كونها ليست بريئة من خلفيات مصلحية ضيقة , و ابتعادها عن المصلحة و الهم الأساسي لأسرة الدفاع , فانه إذا أردنا تقييم عمل الجمعية الحالية فانه يجب علينا مناقشة بعض مواقفها ووضعها محل اختبار من اجل الحكم على تدبير الجمعية للملفات ذات الطابع المهني , و نختار لهدا الأمر موقفين الأول يتعلق بالمساعدة القضائية , و الثاني يتعلق بالتكوين و إنشاء المركز الوطني للتكوين .
فعلى مستوى أول تعرض مرسوم المساعدة القضائية للكثير من الانتقادات نتيجة ما اعتبره البعض هزالة التعويضات الممنوحة و التي لا تليق بالخدمات التي يقدمها المحامون , ناهيك عن ما يمكن أن تشكله هذه التعويضات من معيار قد يعتمده القضاء و المواطن من اجل وضع تصور حول نسبة الأتعاب التي يستحقها الدفاع عن المساطر التي يقوم بها طيلة مراحل التقاضي . و إذا كان كانت هده الانتقادات تنطوي على جانب من الصحة , فان ما يبدد هده الانتقادات و المخاوف هو أن هدا المرسوم كأي قانون هو قابل للتعديل و التغيير لاسيما ان طريقة تعديل المراسيم تمتاز بالبساطة و الليونة و لا تفترض المرور عبر المؤسسة التشريعية و هدا آمر ايجابي . و مادام التغيير و التعديل يمتاز بالبساطة مسطريا , فانه أيضا قابل للتغيير و التعديل موضوعيا من خلال الرفع من حجم التعويضات المحددة كأتعاب للمحامين عن الخدمات التي يؤدونها عن المساعدة القضائية . و من جهة أخرى فانه مند عقود و المحامين يؤدون خدماتهم القانونية و القضائية في إطار المساعدة القضائية بالمجان في غالب الأحوال , لان المساطر التي يقومون بها لا تنتج عنها استفادة مالية إلا في القليل من الأحوال , و بالتالي فالفصل 41 من قانون المحاماة الذي قرر استفادة المحامي من نسبة من التعويضات التي تنتج عن المساطر التي يقوم بها في إطار المساعدة القضائية يبقى معلقا لوجود صعوبات قانونية و عملية. مما يجعل هدا المرسوم المتعلق بالمساعدة القضائية ذو أهمية كبيرة من اجل حل معضلة مجانية خدمات المساعدة القضائية . و أكيد أن النضال سيستمر للحصول على مكاسب جديدة لاسيما من خلال الرفع من الاعتمادات المخصصة للصندوق المتعلق بالمساعدة القضائية , و بالتبعية الرفع من التعويضات المستحقة للمحامين عن خدمات المساعدة القضائية .
أما على مستوى آخر فانه بخصوص اعتماد الجمعية بشراكة مع وزارة العدل تكوينات لفائدة المحامون في إطار الاتفاقية التي وقعت بتاريخ 16اكتوبر 2015 و التي شارك فيها أيضا كل من المعهد العالي للقضاء و باقي الهيئات السبعة عشر للمحامين بالمغرب , لا يعني أن الجمعية تقبر مشروع إنشاء مركز وطني للتكوين , أولا لان الجمعية ليست لها الصلاحية و لا القوة من اجل تعطيل نص قانوني صادر عن المؤسسة التشريعية , ثم لان الجمعية ليست لها القدرة من الناحية الواقعية على فرض الإنشاء الفوري لهدا المركز , و بالتالي ليس لها إلا المطالبة في إطار التنسيق مع الوزارة الوصية على التسريع بالتأسيس و الإنشاء . كما انه ينبغي عدم نسيان أن النص القانوني الذي اقر بضرورة إنشاء مركز و طني للتكوين كان موجودا مند بداية التسعينات و مرت حكومات و مكاتب جمعيات دون أن يفعل أو ينجز على ارض الواقع . و لذلك لا يمكن لوم مكتب الجمعية الحالي عن هده الوضعية , كما لا يمكن اعتبار اعتماد هذه التكوينات بمثابة تخلي عن إنشاء هذا المركز الذي يتطلب إمكانيات مالية و لوجيسكتية و بشرية جد كبيرة . بل هو اجتهاد محمود من الجمعية من اجل تجاوز النقص و الفراغ الناجم عن عدم إنشاء هدا المركز الذي هو مسؤولية الحكومة و الوزارة و ليس مسؤولية الجمعية التي لا يسعها إلا المطالبة بالتسريع بوضع المركز في اقرب الآجال .
هذين فقط نموذجين من عدة نماذج يمكن لأي مهتم حينما يضع تقييم بناء على أساس موضوعي و محايد بعيد عن المصالح المهنية و الشخصية الضيقة , وعن الحسابات السياسوية و الإيديولوجية الصغيرة أن يخلص إلى أن ما تحقق في ظل مكتب الجمعية الحالي ربما لم يتحقق منذ سنوات رغم تعاقب الكثير من المكاتب و الرؤساء الذين شكلوا علامة فارقة في تاريخ النضال الحقوقي و المهني بالمغرب . و ربما مكتب الجمعية الحالي مارس في إطار تدبيره لشؤون المهنة مبادئ السياسة التي عرفها الباحثون في علم السياسة أنها فن الممكن أو فن المتاح . فمكتب الجمعية الحالي كان واقعيا و حاول الحصول على ما هو ممكن و متاح , وهو أمر ايجابي لأنه قضى على الجمود الذي نتج عن الصراع الذي كان محتدما بين مكتب الجمعية السابق و وزارة العدل , إضافة إلى انه حصل على مزايا للمحامين ليست مثالية أو كاملة و لكن على الأقل أفضل ما كان متاحا و ممكنا , على أساس أن النضال يبقى دائما مفتوحا للحصول على مكاسب أخرى , و ليس بالضرورة في إطار الصراع مع الجهة الرسمية الوصية على قطاع العدالة , و لكن يمكن بالوئام و التعاون التوافق أن يتم الحصول على الكثير من الأمور الايجابية لفائدة مهنة المحاماة و المحامون سواء من ناحية المضمون أو من ناحية قصر المدة الزمنية للحصول على هده المكتسبات .
لكن رغم الاعتبارات المذكورة أعلاه ، فانه لا يمكن إعتبار أن تجربة مكتب الجمعية الحالي ناجحة بصفة مطلقة ، و لكن يجب الإعتراف أنها حققت مكتسبات مهمة من منطلق مبدأ ما لا يدرك كله لا يترك جله ، أكثر من المجلس السابق و ربما أيضا أكثر من المجالس السابقة التي كانت تقتصر على النضال الشكلي الفلكلوري الذي يدغدغ المشاعر و يثير الأحاسيس ، و لا تستفيد منه مهنة الدفاع في شيء .
مع ذلك ينبغي الإعتراف أن ضعف دور الجمعية ، و تذبذبها بين عدم الحصول على أي مكاسب ، أو الحصول على بعضها فقط ، لا يعود إلى المكاتب و الرؤساء ، و لكنه يعود أساسا إلى الإطار المؤسساتي الذي تشتغل به جمعية هيئات المحامين بالمغرب ، ذلك أنها تبقى مجرد جمعية مؤسسة في إطار ظهير الحريات العامة الصادر سنة 1958 ، و لا يختلف إطارها القانوني عن باقي الجمعيات التي تؤسس من طرف شباب أو نساء في إطار جمعيات شبابية رياضية أو نسوية ، و لذلك يطرح سؤال إصلاح الإطار القانوني و المؤسساتي للجمعية ، من خلال الارتقاء بها إلى إطار قانوني أكثر رسمية و أكثر إستقلالية على المستوى الإداري و المالي . وكيفية جعله يشكل مرحلة تطور مهمة في إتجاه الحفاظ على مكتسبات مهنة المحاماة و تدعيمها بأخرى من أجل القيام بالأدوار المهمة التي تقوم بها داخل المجتمع ، لا سيما على المستوى الحقوقي و التنموي . و لذلك فإن التفكير في تغيير و تعديل الإطار المؤسساتي يبقى أول خطوة في طريق الإصلاح ، و ربما الاعتماد على ما جاء في أحد توصيات ميثاق إصلاح منظومة العدالة المتمثل إنشاء مؤسسة جديدة تؤطر المحاماة على المستوى الوطني هي عبارة عن مجلس وطني للهيئات ، سيكون مفيدا للدفاع عن مهنة الدفاع ، و سيجعلها أكثر قوة و إستقلالية في مواجهة السلطة القضائية التي أصبحت أكثر قوة بعد ترسيخ إستقلاليتها عن وزارة العدل و السلطة التنفيذية ، و أصبحت تشكل تهديدا حقيقيا على مهنة المحاماة أظهرته من خلال عدة مواقف تحاول من خلالها أن تتقوى و تتغول على حساب مهنة الدفاع . لا سيما إذا تم تدعيم هذا المجلس الجديد من الناحية الإدارية و المالية ، و تم منحه إختصاصات واسعة يستطيع من خلالها أن يحصن مهنة المحاماة من الداخل و الخارج ، و يكون بالفعل الجناح الثاني لطائر العدالة ، حتى تستطيع هذه الأخيرة التحليق عاليا ، و يكون دورها فعالا في الحفاظ على حقوق الأفراد و مصالحهم ، و أيضا على حقوق الدولة و نظامها .

د/ خالد الإدريسي محام بهيئة الرباط

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.