على أعتاب بيت صغير في قرية مغربية نائية، تجلس السيدة مْبَارْكَة، في الخمسينيات من عمرها، تحمل بيديها المرهقتين جهاز هاتف ذكي، تتأمله بعينين ملؤهما الحيرة، كأنها تقف على شاطئ بحر عميق، لا تعرف إن كانت تغوص فيه أم تكتفي بمراقبة أمواجه من بعيد.
أعطاها إياه حفيدها الصغير، يضحك قائلا: “جدّة، راه ساهل”؛ لكن ماذا يعرف طفل عن السهولة؟ وماذا يعرف عن تلك الهوة الواسعة التي تقف عندها مْبَارْكَة، بين عالمها البسيط الذي عرفته طيلة حياتها وعالم جديد يتدفق من خلف شاشة زجاجية صغيرة؟
“مْبَارْكَة” ليست وحدها، خلف كل باب في تلك القرية، وفي كل حي من أحياء المدن المغربية، تلوح أمية جديدة، ليست تلك التي عرفها أجدادنا، بل “أمية رقمية”.
فجأة، لم يعد الجهل مجرد عدم معرفة الحروف، بل صار عدم القدرة على التعامل مع آلات تحكمت في العالم، طمست الحدود وقلّصت المسافات، وكأن التكنولوجيا تطرق أبواب كل بيت، تفرض نفسها بقوة، تقول: “إما أن تتعلموا كيف تتعاملون معي أو ستبقون على هامش هذا العصر”.
حينما اجتاح العالم وباء كورونا، كشف عن صدع عميق في بنية المجتمعات. فرضت التكنولوجيا نفسها كطوق نجاة. التعليم تحول فجأة إلى شاشات، الاجتماعات إلى مكالمات فيديو، وحتى التجارة أصبحت نقرة على زر. لكن، ماذا عن أولئك الذين لا يملكون حتى الإنترنت في بيوتهم؟ ماذا عن أولئك الذين ينظرون إلى الهواتف الذكية كما كانت مْبَارْكَة تنظر إلى لغز لا تستطيع فك شيفرته؟
في المغرب، ظهرت فجأة تلك الفجوة الرقمية الهائلة، حيث وجد الآلاف من التلاميذ والطلبة أنفسهم خارج الفصول الدراسية الرقمية لأنهم لا يعرفون كيف يستخدمونها. بعضهم كان محظوظا ولديه من يعلمه، أما البعض الآخر، مثل مْبَارْكَة، فقد بقي في ظلام الأمية الرقمية، بعيدا عن ضوء المستقبل.
في فصول بلدنا الحبيب، يجلس المعلمون، بعضهم ممن كان بالأمس القريب يشرح دروسه على السبورة الطباشيرية، يجدون أنفسهم فجأة أمام شاشات الحواسيب، يحاولون التواصل مع تلاميذ لا يرونهم.
معلمون، منهم من تربى في زمن الكتب الورقية، يقفون الآن في مقدمة جبهة جديدة؛ جبهة التكنولوجيا. كيف لهم أن يعلموا تلاميذهم ما بالكاد يتعلمونه هم؟ هنا تبرز المعضلة الكبرى: أن التكنولوجيا، رغم أنها تفتح أبوابا واسعة، إلا أنها تطلب منا أن نكون مستعدين لاستخدامها بوعي.
تلك الهوة بين الأجيال تتسع، فالجيل الجديد يولد ومعه معرفة فطرية بالتكنولوجيا، بينما الجيل القديم، مثل مْبَارْكَة، يكافح للحاق بهذا القطار السريع. لكن التكنولوجيا ليست عدوا لهذا الجيل، بل يمكن أن تكون الجسر الذي يصلهم بمستقبل أبنائهم وأحفادهم.
فلنتخيل السيدة مْبَارْكَة بعد أن تتعلم استخدام هاتفها الذكي، تتواصل مع حفيدها في المدينة، تشاركه يومياتها، تبحث عبر الإنترنت عن وصفات طهي جديدة، وربما حتى تشاهد مقاطع تعليمية حول حرفتها التقليدية.
فجأة، لم تعد التكنولوجيا عبئا، بل صارت أداة للاتصال، وسيلة لإعادة اكتشاف العالم بطريقة جديدة.
المغرب يسير بخطوات ثابتة نحو مستقبل رقمي، ولكن تلك الخطوات لن تكتمل إلا إذا شمل هذا المستقبل الجميع. لا يمكن للمغرب أن يزدهر إذا بقي جزء من سكانه عاجزين عن استخدام التكنولوجيا. في هذه اللحظة، يجري بناء مستقبل جديد، ليس فقط على مستوى المدن الكبرى، ولكن في القرى الصغيرة، حيث تجلس السيدة مْبَارْكَة وغيرها من الملايين، ينتظرون بفارغ الصبر أن يشاركوا في هذا العالم الرقمي.
وفي يوم قريب، لن تكون مْبَارْكَة وحدها. لن تكون الأمية الرقمية تلك الشبح الذي يطاردها أو يطارد غيرها.
التكنولوجيا، برغم صعوباتها، ستصبح جزءا من حياتها وحياة كل مواطن مغربي.
هذا المستقبل لا يزال يحمل الكثير من الأمل، أمل بأن تصبح التكنولوجيا جسرا، لا جدارا بين الأجيال.
وفي هذا اليوم، ستستطيع مْبَارْكَة، مثل الجميع، أن تفتح نافذة على العالم، نافذة صغيرة، بحجم شاشة هاتف، لكنها بحجم الكون بالنسبة لها.