وبينما نحن نتجول في دروب المدينة العتيقة للحمامة البيضاء علمت من الصحفي والباحث الشريف العروسي، أن أفضل طريقة لمعرفة سكان المدينة الأصليين هي أبواب بيوتهم ومدى حرصهم على زينتها ونظافة دربهم. فالوافد الجديد دائما ما كان لا يهتم بمثل هذه التفاصيل، فهو مبرمج في شعوره أن هذا المكان لا يعنيه وأنه لا ينتمي إليه وأنه هنا فقط من أجل ظروف الحياة. ذكرني هذا الوصف بحال المناطق السكنية الخاصة بالمهاجرين في أوروبا، فهي تخضع لنفس المبدأ ونفس الإهمال بالمقارنة بمناطق السكان الأصليين.
أما عن تلك الدروب وأبوابها فيخبرني أنه قديما في فترة قبيل وبعد سقوط غرناطة، كانت تقوم العائلات الموريسيكية المعروفة التي أتت وهي تحرص أن يلحق بها من بقي هناك من أهلها، بنقش أبواب بيتها برموز تميز وتدل على نسبها. فنجد أبواب تحمل علامة الرمانة وأبواب علامة مخالب حديدية وغيرها من الرموز لكي يجده أهله بيسر. وهي أغلبها لا تزال موجودة إلى يومنا هذا يراها الزائرون وإن تغير السكان. ومن دلالات حرصهم على حبهم للتعلم هو وجود مدرسة في كل درب وحي.
أما عن فترة عهد الحماية فأكثر ما لا يلحظه الناس هو المعنى الذي يحمله التفاوت في ارتفاع العمران الذي شيدوه. فهناك من توقف حد الطابق الأول وهناك من توقف بعد الطابق الثاني وهناك من أكمل الثالث والرابع. وهذا كله يحمل دلالات.
فما لا يعرفه أغلب الناس أن إسبانيا كانت أفقر ما يكون حين استعمرت المغرب، وأن تطوان خارج أسوار المدينة العتيقة هي كلها بنيت من مال يهودي خالص. فهي في الأصل مدينة يهودية رونقها إسباني. بدأ البناء فيها عام 1918 بتنفيذ هندستها عبر إنشاء الطابق الأول بالإضافة إلى الكنيسة والملعب وسكة الحديد الرابطة بين تطوان وسبتة. رغم أن إنشاء مؤسسة البريد كان قبل ذلك بخمس سنوات وذلك في عام 1913. فتسهيل التواصل كان دوما هو أهم عمود ترتكز عليه المؤسسات العسكرية في تنفيذ أهدافها. وبقي الحال على الطابق الأول حتى عام 1946 بعد أن قدمت اليهود أموال جديدة لاستكمال المشروع. ليتحول المشهد العام لطابقين. أما الثالث والرابع وكثرة الزخارف كانت جلها بعد عام 1949 وحسب ما تجود به جيوب اليهود.
ومن عادات الحكومة الإسبانية إلى يومنا هذا أنها تنشر الرسائل الحربية بخصوص مخططاتها الإستعمارية كل ستين سنة في مناسبة خاصة بتخليد إنجازاتهم. أما نحن هنا في المغرب فليس لدينا الكثير من المصادر المتاحة حول حقيقة ما كان يجري، باستثناء في المكتبة الملكية لأن الفاسيين كانوا دائما أهل التدوين والتاريخ ولأن النخبة المثقفة أغلبها هاجرت من تطوان نحو فاس لتجد أفق أوسع. لكن هذه المصارد هي ليست متاحة للجميع، وأنا كباحث أحتاج إلى البديل لذلك لم أجد لي متنفسا سوى في المراجع التاريخية الإسبانية وهي شيقة وغزيرة وموضوعية بحياد.
هم يعترفون أن الكثير من العائلات الموريسكية التي سكنت تطوان وفاس على أساس أنها هاربة من إضطهاد محاكم التفتيش، هي في الحقيقة ليست سوى عملاء وقطاع طرق تم اختيارهم بعناية وهم لا ينتمون لأي ديانة وإن تظاهروا. كانت مهمتهم تتلخص في التجسس و نشر الأكاذيب والفتنة ونقل الأسرار ومراقبة الأحوال لكي لا يفكر أحد من المطردين بمحاولة العودة مجددا إلى فردوسهم المفقود.
يخبرني العروسي أن هذه القلة هم من امتلكوا السلطة على التدوين وطمس الحقائق التي لا تناسبهم. لذلك الكثير مما قد يقرأ المرء عن العائلات الموريسكية وإنجازاتهم من المصارد التي يقال عنها أنها منهم. هي كذب ولا أصل لها. وبعيدا عن العملاء. فما يكتب أغلبه مناقض للحقائق أو محرف لها. المنظري مثلا لا يستحق كلمة سيدي فقد كان بلطجيا بسلطته وأمواله. أقلها أنه كان يقطع الماء الصالح للشرب عن الناس متى شاء حتى تتنفذ رغباته ويهدد بأمور أخرى حسب الوضع. ومكان ذلك الينبوع لا يزال موجودا إلى الأن في أزقة المدينة القديمة بالقرب من بيته. لكننا نجد أنّ المصادر المأجورة والمتملقة تبجله. في حين أنّ الناس كانت تسهر وهي تدعوا عليه.
يخبرني العروسي الغيور على مدينته والمتأسف على وضع شبابها :
نحن لا نحتاج من يحدثنا عن أسباب الهجرة الغير الشرعية وقوارب الموت وإدمان المخدرات وانتحار الشباب فالحديث عنها لن يغير شيء منها. لكننا نحتاج إلى أن نعود إلى بعض مما كنا عليه في عهد الحماية وما قبل عهد إدريس البصري.
فتطوان ورغم صغر حجمها كانت عاصمة بمعنى الكلمة. لم تكن تعاني من البطالة أو الهجرة منها بل كانت إليها. فقد كان فيها مصنع القهوة، ومصنع الأحذية، ومصنع الأقلام، ومصنع الورق الذي يقال أنه كان الأفضل على مستوى إفريقيا وكانت بعض الشركات الألمانية تستورد منه، بالإضافة إلى شركة إصلاح سيارات مرسيدس، ومصنع السكر، ومصنع المشروبات الغازية، ومصنع البسكوت، ومصنع الكبريت، ومصنع التبغ، ومصنع المبيض، ومصنع الأغطية، إلى آخر ما غاب عن الذهن.
كانت تنافس الدار البيضاء وطنجة والقاهرة في الحضارة على الصعيد الإفريقي. كانت من أوائل المدن في المغرب التي امتلكت مصلحة البريد، والإذاعة، وسكة الحديد، وقاعات السينمات، وأشهر حديقة عامة في شمال المغرب “رياض العشاق”. التي كانت تشهد على أسمى معاني التعايش بين العائلات المسلمة العربية والأمازيغية والإسبانية المسيحية واليهودية الموريسكية. يشهد على هذا التعايش الأرشيف المغربي والإسباني واليهودي معا. فبالرغم من أنها كانت مجتمعات منفصلة نظرا لاختلاف المعتقد الديني، إلاّ أنها كانت متصلة في الحياة العامة.
لكن كل هذا تغير في لمح البصر بعد الإستقلال بسبب سوء استعاب ما وصلت إليه تطوان. وبعد أن أتى إدريس البصري حاملا عقده للسلطة. فقد كان هو وبعض من شاكلته كارهين حاقدين على ما ينعم به الشمال بسبب أن مسقط رأسهم وما جاورها لم يكن في نفس المستوى.
فقام في فترة وجيزة بإغلاق جميع المصانع وتوقيف عجلة النمو والتحضر بقساوة وحدة. فلا إذاعة ولا سكة حديد ولا تجمعات ثقافية. ولا تساهل مع المستثمرين ولا أي نشاط يهدف لخدمة المجتمع. وكان كل من أراد التفاوض من أجل التوصل إلى حل، يقال له إذهب إلى مدن الغرب ونواحيها تنعم بالرخص والدعم أما غير ذلك فلن تنال إلاّ الديون وحجر أموالك والعداوة.
هكذا كانت الخطة. حتى ذهب كل مستثمر من تطوان تاركا خلفه أطلال المعامل ودموع العمال. إما عائدا نحو إسبانيا وفرنسا مسقط رأس أجداده، أو إلى تونس التي كانت تقدم تسهيلات كبيرة للمستثمرين أنذاك في عهد نظام زين العابدين بن علي..
واليوم ورغم ما نشهده من إزدهار وإصلاحات طرقية وإنشاء معاهد تعليمية إلى آخره. لا يزال هذا الفيروس العميق قائم في تعالمه مع تطوان وأغلب مدننا للأسف. إذ كيف يعقل أن يرمم تراث وتاريخ يعود لمئات السنين لمدينة تعتبر هي الثانية بعد فاس في امتلاكها للحرفيين بعامل وصناع من مناطق بعيدة ومختلفة تماما في البيئة وبجودة أقل. ومقاوليين لا خبرة لهم ولا ضمير مهني يليق بالإهتمام الملكي والعالمي بتطوان.
كيف يعقل أن يرمم السيراميك العريق الذي وضع في مكان معين بناء على هندسة وفكر مستبدلين إياه بحجارة إسمنية جافة صادمة.
هذه كلها تفاصيل تخبر عن سرقة المال العام بلا ضمير وتشويه للتاريخ بدون أدنى مبالاة. هل يعقل أن ترمم وتدهن جدران عمرها فوق ال 500 عام بطلاء بلاستيكي يبدأ في الذوبان والتلاشى بعد أول هطول للمطر. يعز علي أن بلدنا تنعم بالخبراء وعشاق تاريخها لكن في مكان التنفيذ لا يوجد من هم أهل لذلك.
أما إذا ما طالب الواحد منا بعض السكان القدماء من القيام بأي ردة فعل تواجه هذا العبث. نجدهم صامتين كموتى القبور. والسبب في ذلك أنهم قاموا في الخفاء بصفقات شخصية خاصة ظنا منهم أنها ربح لهم، والحقيقة كانت أنها إذلال لهم وتهديد في حالة اعتراضهم على المخططات المستقلبية لسرقة هذه المدينة من جهات مجهولة اختصاصها مافيا العقار وسرقة التاريخ.
الكل يتحدث عن مدينة تطوان المدينة المبدعة والتي منحتها منظمة اليونيسكو لقب مدينة التراث الإنساني العالمي، لكن لا أحد يتحدث عن المصانع المغلقة، وعن التسيب والغش الحاصل في ترميمها ويتابع تلك الميزانيات الممنوحة لذلك، ولا أحد يلتفت إلى تهميش صناعها بإبعادهم، وإلى تغييب ملامحها بإغلاق أفرانها التقليدية وحماماتها الشعبية بحجة أن استخدام الأخشاب يلوث البيئة. منذ متى كان الأصل هو المشكلة؟!
فمن ينقذ تطوان؟؟!
مريم عرجون