قبيلة انجرة: آخر أثر للأندلوسيين بشمال المغرب
تنتشر عشرات القرى الصغيرة بدورها المتواضعة البيضاء بين الجبال على طول الشواطئ الجنوبية لمضيق جبل طارق وكأنها أجرام صغيرة لامعة سقطت من السماء. وفي قمم الجبال أو سفوحها أو على الهضاب يتحرك الناس بسحناتهم البيضاء المائلة إلى الشقرة، أو هي الشقرة بعينها.
أحيانا يبدو لمن يزور تلك المناطق أن سكانها هم من فصيلة مختلفة في الطباع والملامح واللهجة. إنهم فعلا مختلفون لأنهم ورثة التاريخ الأندلسي الذين ظلوا على حالهم وطبيعتهم منذ أزيد من 500 عام، وربما أكثر.
المغاربة ذوو الأصول الموريسكية الذين يقطنون هذه القرى هم من أكبر المنسيين في تاريخ الهولوكوست الأندلسي الذي شرد ملايين الأندلسيين وأحرقت وقتلت الكثيرين منهم قبل وبعد سقوط غرناطة.
هذه المنازل والقرى البيضاء ربما كانت في هذه المناطق منذ قرون لأن سكانها هم أحفاد أولئك الموريسكيين الذين نزحوا إلى هذه المنطقة هربا بجلدهم من محاكم التفتيش الكاثوليكية.
القرى والبوادي الممتدة من حدود طنجة شرقا إلى حدود تطوان وامتدادا حتى مدينة شفشاون، كلها تقريبا تنتمي لقبيلة واحدة عملاقة اسمها قبيلة “أنجرة”، وهي أكبر قبائل جبالة على الإطلاق، ولا يزال نفوذها يمتد إلى مناطق واسعة من مناطق جبالة في شمال المغرب.
منذ أن جاء أفراد هذه القبيلة من الأندلس إلى المغرب قبل مئات السنين فإنهم لم يختلطوا كثيرا بباقي مناطق البلاد. لقد ظلوا منغلقين على أنفسهم بين الجبال ويتزاوجون فيما بينهم ويعيدون إنتاج خلاياهم الأندلسية جيلا بعد جيلا ولا يزالون كذلك إلى اليوم.
الكثير من قرى هذه القبيلة ظلت كما هي رغم مرور أزيد من 500 عام على إنشائها. وعندما جاء أولئك الأندلسيون البؤساء الذين طردوا من أراضيهم ومنازلهم ومزارعهم إلى هذه المناطق فإنهم كانوا يبنون منازل شبيهة بتلك التي تركوها في الأندلس. ومازالت الكثير من قراهم تضم منازل قديمة أسطحها بنيت بشكل ثلاثي الأضلع مثل المنازل التي تبنى في المناطق الثلجية لأن أولئك الوافدين على المغرب جاؤوا من مناطق يتساقط فيها الثلج بكثرة مثل غرناطة مثلا، وكان يبنون منازل معدة للثلج لاعتقادهم أن الثلج يتساقط على أنجرة كذلك. كما أنهم بحثوا عن مناطق تشبه المناطق التي تم تهجيرهم منها لذلك اختاروا الاستقرار بين هذه الفيافي الخضراء في مناطق أنجرة التي لا تختلف في شيء عن سهول وهضاب غرناطة وإشبيلية ومناطق أخرى في الجنوب الإسباني.
كان أغلب النازحين أو المهجرين من الأندلس يبحثون في المغرب عن أمكنة تشبه أو تتماثل أحيانا مع المناطق التي هجّروا منها. كانوا يريدون أن يشعروا بأنهم يمكن أن يعوضوا فردوسهم الضائع بفردوس آخر ولو أنه أقل قيمة في أشياء كثيرة، لكن منطقة شمال المغرب منحت الكثيرين من هؤلاء طبيعة خلابة جعلتهم يحسون ببعض السلوى ولا يموتون غبنا بسبب تلك الدياسبورا الرهيبة التي شردت شعبا كبيرا في كل الاتجاهات. هكذا استقر الآلاف من الأندلسيين في سواحل وجبال وسهول قبيلة أنجرة، وهكذا توارثوا تلك المنطقة أبا عن جد معزولين عن باقي العالم، وهكذا ظلوا إلى اليوم يمثلون أحد أكثر الأعراق الأندلسية “صفاء” بالمعنى البيولوجي وليس بالمعنى العنصري.
ومن الغريب أن الناس يتحدثون عن الموريسكيين أو الأندلسيين في تطوان والشاون وسلا والرباط وفاس ومكناس ومراكش، وهي المدن التي اختلطت اجتماعيا وقبليا، وينسون هذه القبيلة التي يمكن اعتبارها آخر قلاع الأندلس في العالم لأنها ظلت كما هي منذ 500 عام.
كان أجداد هؤلاء الأندلسيين يعتقدون أنهم سيستقرون في هذا المكان لفترة قصيرة ثم يعودون إلى ديارهم القريبة. كانوا ينظرون انطلاقا من نوافذ منازلهم على الشواطئ المغربية إلى تلك الشواطئ الأندلسية التي تركوها خلفهم ويعتقدون أن عودتهم إليها مسألة أيام أو شهور أو سنوات على أكثر تقدير.
لكن السنوات والعقود والقرون مرت ولم يعد أحد إلى هناك. ضاعت منهم مفاتيح منازلهم الأندلسية وراح جيل بعد جيل وصار الحلم الأندلسي يغيب شيئا فشيئا حتى صار نسيّا منسيّا. واليوم صار من الصعب على الكثير من هؤلاء أن يتذكروا جذورهم الأندلسية أو الموريسكية البعيدة، بل إن الكثيرين منهم يصابون بالدهشة حين يكلمهم أحد عن جذورهم الأندلسية.
لقد ضاع منهم التاريخ والهوية وأصبحوا يريدون فقط أن يعيشوا حياتهم يوما بيوم ويحافظوا على تقاليدهم وأزيائهم وعاداتهم ولهجتهم. لم تعد تلك الأندلس التي هجروا منها في تلك الأيام البعيدة تثير أشجان أحد. ولم يعودوا يعرفون سر عيونهم الزرقاء والخضراء وشعرهم الأشقر وملامحهم الشبيهة بملامح جيرانهم الإسبان.
لم يعودوا يعرفون أن أغلبهم يتحدرون من أصول أوروبية لأن الذين طردوا من الأندلس كانوا خليطا من الأجناس العربية والأوروبية. إن 800 عام من الوجود الإسلامي في الأندلس لم يعد يعني أي شيء بالنسبة للعرب والعروبة. لقد اختلط العربي بالإيبيري والإيطالي والألماني والإنجليزي والتركي والفارسي والإسكندنافي وصب كل ذلك في بوتقة اسمها الإنسان الأندلسي.