حصيلة التطور بالمغرب بين ربح الوقت وعطب البنية

شارك هذا على :

تبدو حصيلة الإنجازات التي تحققت بفضل ست عشرة سنة من المبادرات الملكية كمحرك حيوي لمختلف المجالات، أنها رفعت رأس المغرب بين الدول، وهو ما دلت عليه مختلف المحطات الوطنية والدولية بمؤشرات هامة، تشيد بسرعة الإنجازات التي سار عليها المغرب بقيادة ملك البلاد، والتعاطي مع القضايا التنموية بتقنيات ذات التأثير المباشر أو غير المباشر على حركية الاقتصاد، بالإضافة إلى منهجية العمل النظيفة، والتي أينعت في عهد جلالته كنموذج مثال يمكن لحكام باقي الدول (السائرة نحو التنمية) الاقتداء به، إلى جانب شجاعته ومتانة قراراته وإحاطته بأهم القضايا، الدولية والوطنية، واجتهاده وحرصه على الحفاظ على الثابت من المهام في الدولة دون تعب، وهذا يدل على أن جلالته رأسمال وطني ودولي لم يستثمر بما يكفي، نظرا للفرق الكبير بين عقل وإرادة ملك وباقي مكونات الدولة الأخرى السياسية والإدارية والمؤسساتية، والتي بسبب جمود القانون بقيت حبيسة الأنفاس ورديئة في بعض الجوانب غير المكملة للتطور، بمبرر الاختصاص، رغم مؤشر الاستقرار وسرعة ونباهة عقل الملك.
فمن خلال الأوراش الكبرى في جميع جهات المملكة، منها مشروع الطاقة البديلة الأول في العالم، ومشاريع صنع السيارات والطائرات والقطار السريع، إضافة إلى المشاريع التوسعية اقتصاديا وعمرانيا، وكذا مشروع الميناء المتوسطي، ومشاريع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية…الخ. وتأكيد جلالته على تحصين المغرب من المخاطر، بل والمساعدة المهمة لبعض الدول الأوربية في مكافحة الإرهاب والتطرف الذي انتقل إلى الدول المتقدمة، وهذا ما دل على أن المدرسة المغربية ذات مستوى عال في تتبع ومعرفة خيوط الإجرام الدولي المتنوع، مما يدعو إلى الاستمرار في تقوية المنحى الأمني بالتفكير في البنوك المعلوماتية أو ما يمكن تسميته بسويسرية المغرب (معلوماتيا)، كما استنهض المغرب الديبلوماسية الدينية والتعاطي الديني الروحي القائم على الاعتدال والتسامح والتعايش مع كل الروافد الثقافية العالمية، بالتأطير الموحد المنهج والموضوع، وكذا الأسلوب والفعالية، مما جعل المغرب قبلة لطلب النموذج الديني المغربي.
وفي المقابل فإن النقاش العمومي المفتوح للمواضيع المطروحة، تبين أن هناك أعطابا في البنية المجتمعية كما دلت عليها الاحتجاجات ضد شركة أمانديس في الشمال، وبعض الأحداث ذات الارتباط بالصحة والتعليم والمال العام، وهذا يدل على عيوب ماتزال تنتظر الإصلاح، وهي مرتبطة بسوء ربط الحق بالواجب، والمسؤولية بالمحاسبة، والوطن بالروح الوطنية، حيث لم يعد لمبدأ الارتباط بالوطن– في إطار الحق والواجب – أهمية في الثقافة المعاصرة، بالقدر الذي كان في الماضي، ولم يعد الارتباط بالتاريخ ذا قيمة، فقد تغيرت العادات وأنماط التفكير الخاصة، حتى انفرد الإنسان بذاته وفصلها عن القيم والمثل والرمزية، وأضحت متشبثة بشكليات الواقع والإكراهات المادية، وطغى بشكل ملفت الاعتقاد في الفكر الإغرائي كمعيار للتفريق بين مستويات الأفراد، فهيمن منطق جمع الثروة والمال والوضع الاقتصادي على الحضور في كل المجالات، حتى أصبح من يتملك ويتحكم لا يراعي قيم وثوابت وطنه في أي مجال، ماعدا مجال الدولة السيادي الضيق، ولقد كان للتاريخ والوطن الدور الفعال في البناء، ولم يبق لمنتوج التاريخ إلا الوجه المسيس، أما الأرض فقد تأثرت برياح العولمة، حتى تم تخطيها كثابت من ثوابت الاستقرار والأمن والعيش… وتم سحب التاريخ والوطن كركائز الانتماء، وتساوى الأصيل مع الدخيل، وتغلب المكتسب على الأصل.
ومع تطور المجال الحقوقي والبناء المؤسساتي بما يؤطر مفهوم المواطنة والصالح العام والدفاع عن الهوية، توسع هامش الحرية بعيدا عن ترابط الحق بالواجب، واعتماد الوطنية كمحور في البرامج التربوية والتعليمية في السنوات الأولى للاستقلال، ومن خلال التأطير الحزبي والمدني. وبحكم أن القيم أصبحت فلسفة، فقد خضعت للتحايل والتأويل والانتقاص بحسب متطلبات الحياة والحرية والاعتقاد فيها بشكل متفاوت.
فهناك مواطنون يراهنون على الوطنية لاستمرار الخدمات العامة في الوطن، نظرا لوضعهم الاجتماعي، ولصعوبة تحقيق الحاجيات المختلفة والمكلفة، وصعوبة الانسلاخ عن الانتماء لهوية الأرض والتاريخ والقيم، وهو ما يولد حركات فكرية ودينية مما يفرض على الدولة إعادة النظر في مفهوم تراجعها عن السياسات العمومية الاجتماعية التي أشرفت على الإفلاس، إلى جانب ارتفاع التكاليف في نفس المجالات في القطاع الخاص، ذلك أن نتيجة توالي الأزمات الاجتماعية، يؤدي إلى ارتفاع الأصوات والاحتجاج وانتشار الجريمة، وإتاحة الفرصة للمستفيدين من الأزمة.
وهناك من يبحث عن المكتسبات في ظل الأزمة، ويتعايش مع الوضع كما هو، ويعتبر أن العولمة هي التي وسعت من محنة الفرد بجاذبية المصلحة الفردية، دعه يعمل دعه يمر، واتساع الأفق نظريا بتخطيها الحدود الوطنية، بعولمة المبادرة وتغيير الإطار القانوني المعزز لحرية الفرد، الشيء الذي لم يبقى معه مؤشر الانتماء للوطن سوى عن طريق الأداء الضريبي والتصويت السياسي، وبحلول المقاولة والشركة محل المؤسسات، فهل أصبح من المفروض على المواطن قبول ضريبة تراجع دور الدولة الاجتماعي؟.
ما يؤشر عليه الوضع هو إيجابيات مهمة أنقذت سمعة ومكانة المغرب، ورفعت من تواجده في الساحة الدولية، بفضل حكمة جلالة الملك، واستنهاض أدواره الحيوية، لكن ماتزال بعض الجوانب الاجتماعية، وبالخصوص قطاع التعليم والصحة، والتي تنتظر إعادة الدولة للنظر في مفهوم التراجع غير المبرر وغير المقنع في المجالات الاجتماعية، علاوة على إصلاح القضاء لتعزيز استراتيجية التوجه الحكيم نحو نادي الدول الصاعدة.

الدكتور  أحمد درداري، أستاذ السياسات العامة بجامعة عبد المالك السعدي الكلية المتعددة التخصصات تطوان.

ورئيس المركز الدولي لرصد الأزمات واستشراف السياسات

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.