خالد الإدريسي يكتب: محاكمة الأستاذ عبوز

شارك هذا على :

فوجئ جميع المتتبعين للشأن القضائي المغربي بظهور حالة قضائية فريدة و نادرة تتعلق بمسطرة قضائية جنحية ، توبع فيها المتهم في حالة اعتقال .

و تميز هذه المسطرة ليست لكون المتابع و المحكوم عليه له صفة محام ، و ليس أيضا لأنه رجل عجوز و مصاب بعدة أمراض مزمنة و مع ذلك تمت متابعته في حالة إعتقال رغم وجود كافة الضمانات الشخصية و الموضوعية لمتابعته في حالة سراح ، لا سيما و نحن نعيش جميعا هذه المأساة الصحية التي ترتبت عن أزمة كورونا و ما أنتجته من آثار مدمرة على جميع المحالات و لا سيما في المجال الصحي ، لانتشار عدة بؤر لهذا المرض في عدة أماكن من بينها السجون التي أصبحت من أهم بؤر هذا الفيروس بشكل بات يشكل تهديدا كبيرا على صحة و سلامة السجناء . و لكن غرابة هذه المسطرة و استثنائيتها هو أن الإجراءات المسطرية المتخذة في هذا الملف لا سيما بعد صدور الحكم الإبتدائي عن المحكمة الإبتدائية بالخميسات ، تمت في وقت قياسي و غير مسبوق ، ذلك أن الحكم المستأنف صدر بتاريخ 14/05/2020 ،وأدرج في جلسة لدى محكمة الاستئناف بتاريخ 18/05/2020 ، و استجابت الهيئة التي تبت في الملف إستئنافيا لطلب الدفاع بتأخير الملف ، و لكن ليس لمدة أسبوع على الأقل كما يتم العمل بذلك في الملفات العادية ، و لكن فقط لمدة يومين ، أي أن الملف أدرج في جلسة الأربعاء 20/05/2020 ، رغم تشبت الدفاع بمهلة كافية للتخابر مع المؤازر و إعداد الدفاع .

و ينضاف إلى هذه المعطيات المريبة ، المعطى الأهم وهو أن الأستاذ عبوز من المقرر أن يسترجع حريته يوم الجمعة ، بعد أن قضى العقوبة التي قررها الحكم المستأنف و هي الحبس لمدة شهرين نافذة . و لذلك يمكن طرح عدة تساؤلات حول مبررات الاستعجال بتعيين الملف في أقرب جلسة ممكنة ، رغم إصرار أعضاء هيئة الدفاع على تأجيل الملف لمهلة جد كافية ؟ و لماذا تعيين الملف قبل يوم واحد من خروج الأستاذ عبوز من السجن ؟ و هل هناك نية مبيتة لتجهيز الملف في الجلسة المقبلة و الحكم برفع العقوبة المحكوم بها في المرحلة الابتدائية ؟ و من المستهدف من هذا التعامل المسطري الاستثنائي الخاص بهذا الملف ، هل هو الأستاذ عبوز أم مهنة المحاماة ؟

نعم ، هذه كلها أسئلة مؤسسة على الانتهاكات المسطرية التي تمت في هذه المحاكمة ، و التي تفرض محاكمة هذه المحاكمة ، و ذلك إنطلاقا من أسس قانونية و حقوقية و مهنية . فعلى مستوى أول , يمكن أن يعتبر البعض أن ما قام به الأستاذ عبوز يدخل في إطار عدة أفعال منصوص عليها و على عقوبتها بمقتضى القانون الجنائي ، و فق ما سطرته النيابة العامة في متابعتها و ما قضت به المحكمة مصدرة الحكم المستأنف في حكمها ، إلا أنه ينبغي التذكير أن السب و القذف و الاهانة تدخل في إطار الجرائم التي تمس الحق الخاص و ليس الحق العام ، و هي تشكل جرائم فادحة إذا مست الأفراد العاديين بالنظر لما يشكله ذلك من ضرر كبير على الجانب المعنوي و الاعتباري لهؤلاء الأشخاص . لكن فيما يتعلق بالسب و القذف و الاهانة الموجه للأشخاص الذين يتحملون مسؤولية عمومية فإنه بإعمال معايير القانون و القضاء الدولي و لا سيما قضاء المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ، فإن للمواطنين حق واسع و ثابت في انتقاد هؤلاء المسؤولين العموميين ، بناء على أن تحمل المسؤولية العمومية يفرض إعمال ليس فقط أنواع الرقابة الرسمية و لا سيما المالية و الإدارية و القضائية ، و لكنه يفرض أيضا رقابة شعبية إنطلاقا من حق المواطنين في تقييم أداء المسؤولين المؤتمنين على تدبير الشأن العمومي ، و لو كان ذلك في صيغة جريئة أو جارحة و مهينة ، و من بين القرارات التي سارت فيها المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان في هذا الاتجاه ، نجد قرارها الذي اعتبرت فيه أن ” الحق في حرية التعبير لا تهم فقط الأخبار و الأفكار التي يمكن تلقيها بارتياح آو بصفتها غير مؤدية أو لا مبالية ، بل أيضا تلك الأفكار التي تؤدي و تصدم و تقلق ، و هذا ما تريده التعددية وروح التفتح التي بدونها لا وجود لمجتمع ديموقراطي ” .

و يميل اجتهاد القضاء الدولي أيضا إلى منح الأشخاص المنتمين إلى المعارضة مجالا أوسع لانتقاد الحكومة ، و هكذا اعتبرت المحكمة الاروبية لحقوق الانسان في قضية Castells ضد اسبانيا ” أن السيد كاستل قد تعرض حقه في حرية الرأي و التعبير للتدخل و إن كان منصوصا عليه بالقانون و يتابع هدفا مشروعا الذي هو حماية النظام العام ، فهو غير ضروري في مجتمع ديموقراطي و لا يتناسب مع الهدف المتبع . و قد منحته المحكمة تعويض مالي كبير كتعويض له تؤديه الدولة الاسبانية جراء انتهاكها لحرية الرأي و التعبير ” . و بالتالي فإنه يلاحظ أن القضاء الدولي يعتبر أن الحدود المسموح بها للنقد إزاء الحكومة يجب أن تكون واسعة ، كما اعتبرت نفس المحكمة في قضية Thorgier thorgeirson contre islande على أنه ” في مجال حرية الرأي و التعبير المرتبطة بالقضايا السياسية أو القضايا التي تهم الرأي العام بصفة عامة ، لا يحب إلزام المتهم بإثبات صحة انتقاداته عندما تكون مبنية على أمور يتداولها الرأي العام . و أنه يفترض حسن النية مادام الشخص قد أثار قضية تهم الصالح العام و يتوخى من ورائها خدمة المصلحة العامة مهما كانت قساوة اللغة المستعملة . و اعتبرت أن معاقبة شخص في هذا الإطار سيردع الناس عن المناقشة الحرة لمواضيع ذات أهمية عامة ، و بالتالي فهو تدخل لا يتناسب مع الهدف المشروع المتبع و هو الدفاع عن سمعة الشرطة ، و يعد غير ضروري في مجتمع ديموقراطي ” . و بالتالي فإن ما ورد من تصريحات للأستاذ عبوز هو موقف عادي في الدول الديموقراطية التي تحترم حقوق مواطنيها في إبداء مواقفهم فيما يتعلق بالسياسات العمومية و طريقة تدبير المسؤولين لهذه السياسات . و بالتالي يمكن اعتبار الاستاذ عبوز مثال حي لمواطن غيور على تدبير الشأن المهني الذي يريد أن تتجسد فيه مبادئ الحكامة و حسن التدبير .

و من جهة ثانية فانه كان من المفروض بدل أن يتم إعتقال الزميل عبوز و وضعه في السجن في هذه الظروف الاستثنائية و الخطيرة ، رغم وجود جميع الضمانات التي تفرض محاكمته في حالة سراح ، أن يقوم القضاء و باقي الهيئات الرقابية الأخرى بفتح تحقيقات معمقة و جدية للتأكد من الإختلالات التي يعرفها تدبير هذه المرافق العامة ، و حجم الاختلاسات المالية التي يمكن أن يكون المال العام تعرض لها من طرف المؤتمنين عليه ، و ليس اعتقال مواطن بسيط ، و لو أن له صفة محام ، فقط لمجرد فضح وقائع فساد .

و بالتالي فإن القرار الذي تم بموجبه اعتقال الأستاذ عبوز و متابعته في حالة إعتقال ، هو قرار خاطئ إنطلاقا من المعايير الحقوقية و مبادئ الحكامة و الشفافية و حسن التدبير ، لأنه كان يجب أن يتم في اتجاه فتح تحقيقات لمراقبة هذه الاختلالات و متابعة مرتكبيها و كل من ثبت تورطهم في ذلك ، لا سيما من طرف النيابة العامة ، و المجلس الأعلى للحسابات ، و أيضا مفتشيات الإدارات المعنية , التي أكد الزميل وجود فساد و اختلال في التدبير الإداري و المالي من طرف المسؤولين المعينين في هذه الإدارات . لا سيما أن دستور 2011 و كافة الخطابات التي ألقاها صاحب الجلالة الملك محمد السادس تؤكد على ضرورة ترسيخ الحكامة و الشفافية في تدبير الشأن العمومي و ربط المسؤولية بالمحاسبة .

و على مستوى أخر فان التعامل الاستثنائي مع هذه المسطرة بما حوته من خروقات مسطرية و إجرائية ، و أيضا بما يمكن أن يستنتج من حالة الاستعجال الذي طبع هذه الإجراءات سواء من خلال الطعن بالاستئناف و الإحالة على محكمة الاستئناف و تعيين الجلسة الأولى بعد أربعة أيام من صدور الحكم المستأنف ، و تعيين الجلسة الثانية بعد يومين من الجلسة الأولى ، و كل ذلك من أجل البت في الملف بشكل نهائي قبل يوم واحد من استكمال الزميل لمدة محكوميته التي ستنتهي يوم الجمعة . يثير عدة علامات استفهام و التي تؤكد أن أطراف خفية لها مصلحة في البت في الملف قبل يوم الجمعة 22 ماي ، و ربما هناك قرار جاهز بالرفع من العقوبة ، لكي يبقى الأستاذ عبوز دائما في السجن من استكمال مدة العقوبة الجديدة . و لكن السؤال المطروح هو من المستهدف من وراء هذا الاهتمام المتزايد بملف كان يمكن أن يكون بسيطا و لن يسمع به أي أحد لو تم التعامل معه بحكمة أكثر و بتطبيق سليم للقانون ؟ فهل المستهدف هو الأستاذ عبوز وهو الرجل الهرم المريض بدنيا و نفسيا ، و الذي لم يعد يقوى على ممارسة المهنة بناء على الظروف الصحية التي يمر بها , فما بالك أن يواجه غياهب السجن في هذا الظرف الاسثتنائي العصيب ؟ أم أن المستهدف هي مهنة المحاماة التي تعيش في السنوات الأخيرة أسوأ أيامها ، و التي جعلتها تعيش أزمة بنيوية خطيرة ؟ من الأكيد أن هذه الإجراءات الاستثنائية الخطيرة الخارقة لأبسط قواعد المسطرة لم تكن لتطبق على شخص عادي ، لكن الملاحظ أن صفة محام أصبحت ظرف تشديد في المتابعات و الاعتقالات و المحاكمات في هذه السنوات الأخيرة ، بعد أن كانت مصدر للحصانة و الامتيازات . و لذلك يمكن الجزم أنه ليس الأستاذ المعتقل و المحكوم عليه بالسجن النافذ هو المستهدف ، و لكن مهنة المحاماة هي المستهدفة ، و التي من المؤكد أن هناك خطة لإضعافها و تدجينها بأساليب مختلفة ، و هذه المحاكمة تدخل في إطار التدجين الحقوقي الذي يتعارض مع ابسط مبادئ المحاكمة العادلة التي هي حق لكل مواطن ، و أيضا يتعارض مع الحصانة الذي يحب أن يتمتع بها رجال و نساء الدفاع .

و لكن في خضم هذه الانتقادات ، فانه يمكن التأكيد إن هذه المحاكمة عرت على بعض نقط الضوء التي تثلج الصدر ، و تمنح بارقة أمل لتحقق مستقبل أفضل على مستوى المهنة بشكل اخص و أيضا على مستوى العدالة بصفة عامة . فعلى المستوى المهني يعتبر التضامن و التآزر الذي أبان عنه عشرات الزملاء و الزميلات الذي حضروا لدعم زميلهم في هذا الملف سواء في المرحلة الابتدائية و الاستئنافية ، و غيرتهم و شجاعتهم و جرأتهم ، بمثابة حافز للنظر بشكل ايجابي لمستقبل المهنة من أجل أن تكون أكثر قوة و تحصينا ، و لو أن الأمر يتطلب مزج هذا الحماس و الشجاعة مع نوع من الانضباط و التنسيق حتى تكتمل القوة عن طريق تكامل الأسباب الذاتية بالأسباب الموضوعية . كما أن الأمر يفرض نوع من الدعم المؤسساتي ، و ليس فقط على مستوى هيئة الرباط فقط ، التي تطوع فيها عدد مهم من أعضاء المجلس مشكورين للمؤازرة ، و لكن أيضا على مستوى باقي الهيئات و لا سيما جمعية هيئات المحامين بالمغرب ، خاصة أن الأمر لا يتعلق بشخص له صفة محام يتعرض لهذه الانتهاكات في هذا الملف ، و لكن يتعلق أساسا بمهنة مستهدفة منذ مدة طويلة ، و هذه المحاكمة فقط فصل واحد من عدة فصول سابقة و أكيد من فصول لاحقة ، لمضايقة المنتمين لهذه المهنة ، و اختبار مدى قوتهم القاعدية و المؤسساتية . أما بخصوص نقطة الضوء الأخرى المرتبطة بالعدالة ، فهو التنويه الذي يستحقه القضاء الذي اصدر الحكم المستأنف لدى المحكمة الابتدائية بالخميسات ، و الذي أبانت طريقة تدبيره الجلسات في المرحلة ابتدائيا من الناحية المسطرية و الحقوقية على قدر كبير من المهنية و الاحترافية ، كما الإجراءات اللاحقة للحكم الذي تحدثنا عنها أعلاه ، تؤكد أنه كان قضاء حرا و مستقلا ، و لا تؤثر فيه الضغوطات من أي جهة كانت . وهذا النوع من القضاء هو الذي نحتاجه من أجل جعل القضاء ضمانة أساسية لتحقيق العدل و جعل القانون بالفعل أسمى تعبير عن إرادة الأمة .

د/خالد الإدريسي 

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.