تصريحات بنكيران و دورها في المساس باستقلال السلطة القضائية
تؤطر الدول الديمقراطية مبادئ و أسس ينبغي احترامها من لدن جميع الفاعلين داخل دولة معينة سواء كانوا حكاما أو محكومين، و لعل من أهم هده المبادئ الراسخة في هذا الإطار هو مبدأ فصل السلط , إذ أن السلطات الثلاث الموجودة في كل دولة يجب أن تعمل باستقلال عن بعضها البعض و أن تخضع فقط للضوابط المحددة دستوريا و قانونا، و أن تبتعد عن التحكم و التوجيه الذي قد تمارسه إحدى السلطات على الأخرى.
و منذ أن ظهرت في المغرب الدولة في شكلها الحديث و هي تختار النهج الديمقراطي انطلاقا من تكريس دولة مؤسسات تعمل على ترسيخ دولة الحق و القانون و تساهم في تحقيق التنمية في مفهومها الشامل ، و إذا كان هناك حسم منذ مدة طويلة على أن السلطتين التنفيذية و التشريعية تشكلان سلطتين كاملتين متوازيتين، فإنه كان هناك نقاش منذ مدة فيما مضى حول القضاء و مدى اعتباره سلطة تكمل السلطتين التشريعية و التنفيذية أم أنه مجرد مرفق لا يرقى إلى درجة السلطة ، هذا النقاش الذي حسمه دستور 2011 و اعتبر صراحة أن القضاء سلطة كاملة لا تقل أهمية عن السلطتين الآخرتين، بل و أقر مجموعة من التدابير بقصد النهوض بها من أجل أن تقوم بدورها كاملا في ترسيخ العدالة و إحقاق الحق و المساهمة في التنمية.
لكن للأسف ما زلنا نجد بعض الممارسات التي تصدر عن بعض السياسيين الذين لم يستوعبوا بعض روح الدستور الجديد و المكانة المرموقة التي أصبحت للقضاء ، والاستقلال الذي يجب أن يتمتع من اجل أن يقوم بالأدوار المنوطة به، لذلك نجدهم يصدرون تصريحات تمس بمبدأ استقلال القضاء و تؤثر أيضا على مبدأ فصل السلطات . و خير دليل على ذلك هي التصريحات الأخيرة المتواترة للسيد رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران الذي لم يتوانى كلما سنحت له الفرصة في التأثير على القضاء رغم انه يفترض انه رئيس حكومة و ممثل للسلطة التنفيذية و يجب أن يترك السلطة القضائية تمارس مهامها باستقلالية ووفق ما يفرضه القانون و أيضا وفق قواعد العدالة و الإنصاف . و قد بدأت هذه التصريحات المؤثرة على القضاء أول الأمر في قضية محمد نجيب البقاش قاضي طنجة حينما صرح بضرورة متابعته و محاكمته و إدانته رغم أن الملف كان معروضا على القضاء ، وهو ما شكل تأثيرا ذي طبيعة سياسية على القضاء بقصد توجيهه في اتجاه الإدانة بعيدا عن المعطيات الموضوعية الواردة في الملف.
و كنا نظن جميعا أن السيد بنكيران قد تعلم من خطأه خاصة بعد الانتقادات التي وجهت إليه ، إلا أنه كرر نفس الخطأ في ملف العمراني الذي توبع أمام القضاء لثبوت مسؤوليته انطلاقا من الإهمال و التقصير الذي أدى إلى غرق أطفال كانوا في حوزته ، إذ أن السيد بنكيران المعروف بسقطاته و زلات لسانه صرح أنه يجب عدم متابعة العمراني و يجب إطلاق سراحه رغم أن الملف كان معروضا أمام القضاء وله وحده صلاحية إقرار مسؤوليته أو عدم مسؤوليته عن الأفعال المتابع بها ، وهو ما اعتبر تأثيرا غير سليم على القضاء في ملف حساس أثار زوبعة لدى الرأي العام , و إخلالا بمبدأ فصل السلط و استقلال القضاء. و توقعنا جميعا بعد ذلك أن الأمر انتهى و أن بنكيران ” غادي يجمع فمو” إلا أن مسلسل المس باستقلال القضاء مازال مستمرا خاصة فيما تبين من تصريحات الوزير بنعبد الله الذي أكد على أن السيد رئيس الحكومة سيتدخل من اجل إسقاط متابعتهما وإطلاق سراح الفتاتين اللتين ثم القبض عليهما بتهمة الإخلال العلني بالحياء لارتدائهما تنورتين قصيرتين في الشارع العام، و هذا الأمر أيضا مجانب للصواب لان أمرها هاتين الفتاتين معروض على القضاء و هو الوحيد المختص من اجل تكييف مدى جرمية أو عدم جرمية الفعل الذي قاما به ، و أن تصريح كهذا أو تدخل في هذا الإطار سيؤدي إلى المساس بشكل خطير باستقلال السلطة القضائية.
ونحن إذ نطلب من السيد رئيس الحكومة احترام اختصاصاته و صلاحياته الدستورية و الابتعاد عن الاختصاص الأصيل للسلطة القضائية التي يفترض أنها مستقلة و غير خاضعة إلا لسلطة القانون و الدستور ، فإننا لا نقول على أن مواقفه صحيحة أو خاطئة في مضمونها إذ تحتمل الأمرين ، و لكننا بالأساس نؤكد على أن من يتحدث هو السيد رئيس الحكومة الذي له صفة رئيس السلطة التنفيذية و ليس عبد الاله بنكيران المواطن المغربي الذي له في الحالة الأخيرة فقط بناء على صفته كمواطن و لا يتحمل أي صفة رسمية أو سياسية أن يعبر عن و جهه نظره انطلاقا من حرية التعبير عن الرأي المضمونة له دستوريا ، أما أن يخوض بصفته الحكومية في الملفات الرائجة أمام القضاء فهذا ليس من شانه و بعيد عن اختصاصاته ، و سيعمل على تكريس المساس باستقلال السلطة القضائية التي دعم الدستور صلاحياتها و جعلها مستقلة و غير قابلة للتأثر بأي موقف صادر عن أي جهة إلا من الوثائق و الدلائل و الحجج الموجودة في الملفات المعروضة أمامها . و بهذا فقط يمكن أن نرسخ مفهوم القضاء القوي و النزيه و المتجرد و المستقل. فيا بنكيران اترك القضاء و شأنه وكفى مسا باستقلاله.
راديو تطوان-خالد الإدريسي محام بهيئة الرباط