اَلتَّعَايُشُ السِّلْمِيُّ: أَدَاةٌ لِدَمْجِ الدَّوْلَةِ بِالْمُجْتَمَعِ
كان ولازال مفهوم العيش المشترك وقبول الإختلاف داخل عالم آمن يضمن استقرارهما، أحد أهم التحديات الكبرى أمام الإنسانية جمعاء، إذ بمجرد ذكر لفظة “التعايش” وجب استحضار لفظة “الآخرين”، فجوهر التعايش يقوم على الإعتراف بالكينونة الوجودية لهؤلاء “الآخرين”. وبالتالي، فإن كل الحركات والأطياف الإجتماعية والسياسية انبثقت بسبب الإيمان بمبدأ التعايش، وما الحروب التي نسقط فيها إلا نتاج زيغ وإلحاد عن هذا المبدأ بأشكال متفاوتة، تظهر لنا من خلال حجم هذه الحروب ومدد استمرار دوران رحاها.
إن التعايش هو تعلم العيش المشترك وقبول التنوع الشبيه والضارب في الإختلاف أيضا، وذلك داخل المجتمع الواحد، وليس فقط تحديدا لمعيار يجعل تعامل الدول بعضها مع بعض متسقا، فالتعايش الحميد في المجتمع السليم يضمن وجود علاقة إيجابية مع الآخر، وهذا ما يعزز الكرامة والحرية والإستقلال فعلا.
ولعل أبرز مثال على استيعاب فن التعايش هو الإعتراف المتبادل والموفِّر للحرية والإستقلال، كالكفاح من أجل التعايش بين المرأة والرجل والسعي الحثيث وراء إيجاد صيغ مقبولة تساوي بينهما، وتاريخ الحركات الإجتماعية في كل زمان ومكان زاخر بصور تمثل لنا التعايش الحق بين بني البشر (تعايش الأديان، تعايش العرقيات المختلفة، تعايش الأطياف المتطرفة والمعتدلة والمتساهلة في كل نواحي الحياة…إلخ).
وبعد هذا الإيضاح الطفيف، نجد بالمقابل أن المفردات السياسية الحديثة تصور مصطلح “التعايش السلمي” كاستراتيجية للبقاء والوجود بين الحرب بالمعنى الحرفي، وبين والسلام بالمعنى المثالي، لذلك فالتعايش وفق هذا التصور يقتصر على العلاقة السلمية بين الدول، وهذا مناف للنهج الصحيح إذا ما علمنا من الوقائع الملموسة أن تنمية الدولة يتطلب حسن التعايش داخل الدولة ذاتها، فالشعوب المتناحرة دوما وغير القابلة للتنوع والإختلاف تظل متدهورة على مر الدهور، وحتى إن تجلت للعيان في قالب الدولة الحديثة والمتقدمة، فإن هذا التقدم والحداثة عبارة عن زخارف تصدرها السلطات الحاكمة ولا تعكس الواقع المرير بالمطلق، وأكبر دليل على ذلك هو ما تم اكتشافه في الدول المتساقطة من تجاوزات كبرى بسبب ما يسمى برياح الربيع “العربي”.
وبناء على السالف ذكره، فإن التعايش كنموذج يجب أن لا يبق محصورا في العلاقات بين الدول، ولكن وجب أن يتحدد وفق العلاقات داخل هذه الدول أيضا، إذ كل دولة تعرف شعوبها أعراقا وجماعات دينية وعشائر وقبائل وأطيافا من الهويات، ولن يندمج كل هذا إلا بتحقيق التعايش السلمي الداخلي بين هذه الشرائح، فالتعايش تحد كبير، وضرورة ملحة لنفي الحروب والإقتتال المادي والمعنوي وسير ركب الحضارة نحو التقدم.
ومن جهة أخرى، فإن التعايش القويم لابد وأن يجد حدودا له داخل المجتمع، وأضعف الإيمان يوجب الإتفاق بين جميع الأطياف حول نظام الحكم وسلطة الدولة، لذلك صار الكفاح من أجل تعزيز تقرير المصير للشعوب ضروريا للغاية من أجل تصفية الإستعمار، إلا أنه يجب أن نلفت بالإشارة إلى تقرير المصير الذي قد لا يخدم مبدأ التعايش السلمي، بل قد يصير غلوا يستغل المبادئ والقيم الدولية التي كرستها للإنسان، إذ لا معنى أن يقوم وطن بتعمير وإصلاح أراضيه بكلتا بنيتيها التحتية والفوقية، ليخرج إلينا بعدئذ نفر من القوم يحاولون الإنسلاخ عن أرضهم بدعوى حقوق الإنسان، أو تُرَاهم مسحورين جراء سطوة تكهنات “بترولية” أو “نفطية”، أو لعلهم يثقون في وعود جافة مادية من جهات خارجية، كما هو الحال في ملف الصحراء المغربية، هنا نكون أمام تطرف وإلحاد وزعزعة للإستقرار، ونبتعد عن التعايش السلمي، وبالضرورة عن الإنصهار في الهوية الواحدة، ومنه عرقلة التقدم والمضي في الإزدهار.
وفي هذه الحالة التي ذكرنا، ولعله هناك حالات أخرى، من البديهي أن انفصام المجتمع عن الدولة يثير بلبلة واستنفارا، لأن المجتمع والدولة بطبيعتهما مفهومان متميزان ومتلازمان، إذ لا وجود للدولة من دون مجتمع، كما أنه لا وجود للمجتمع من دون حماية الدولة. ولذلك، فهناك ترابط جدلي بين العمل من أجل المجتمع المدني وبين الدولة الديموقراطية، إذ أن الإطار السياسي الوحيد لنمو المجتمع هو إطار الدولة الديموقراطية القائمة على التعددية السياسية والفكرية وحرية إقامة التنظيمات والمؤسسات السياسية وغير السياسية واحترام تداول السلطة وضمان حقوق الإنسان، فالديموقراطية هي وحدها تدعم مؤسسات المجتمع المدني الإقتصادية والإجتماعية والثقافية وتنميتها.
وكذلك الحال في المملكة المغربية بما أننا أدرجناها ضمن مثالنا، فأطياف المجتمع المغربي متعددة ومختلفة، ومنها المجتمع الصحراوي في الأقاليم الجنوبية، وكل هذه المجتمعات الصغيرة تشكل في تلاحم وتعايش الوطن جملة وتفصيلا، لذلك فإن الحفاظ على هذه المجتمعات المشكلة للمجتمع الأكبر لن يتأتى إلا بالإيمان بالدولة الواحدة. وعلى هذا الأساس، فإن القاعدة التي يتخذها التعايش لا تقوم على فصل مجتمع من الدولة أو مساعدته لتحقيق ذلك، بل إن التعايش الحقيقي هو الذي يصب في اتجاه توحيد الأطياف على صعيد واحد، ولَمِّهِمْ داخل الكيان الواحد بصرف النظر عن اختلافاتهم وتنوعاتهم، إذ كيف يتحقق مفهوم التعايش الذي ندعو إليه صبحة وعشية بدون اختلاف؟ وكيف يمكننا أن ندعي أننا متعايشون وفينا المختلفون الذين يسعون لفصل مجتمع أصغر عن مجتمع أكبر بدون تأويل ولا تنوير؟
راديو تطوان-نور أوعلي باحث في القانون والإعلام