المواطنة، ما هي؟
بعد أربع سنوات من المأساة السورية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ما زال السوريون يعانون من الاستبداد بكل أشكاله، ويبدو أن التخوف الذي يراود معظمهم هو الخروج من وطأة استبداد ألفوه رغماً عنهم، إلى وطأة استبداد آخر، فإن كان الأول حكمهم باسم الوحدة والحرية والاشتراكية والمقاومة وتحرير فلسطين، سيأتي الثاني ليحكمهم باسم الله، وإن أصبح الثائر في وجه الأول خائناً وجب قتله، سيصبح الثائر في وجه الثاني كافراً زنديقاً مرتداً يجب قتله.
وربما من الضرورة بمكان إيضاح أن الإسلام بريء من الاستبداد، الإسلام الذي أتى للأنبياء والرسل ابتداءً بنوح، وانتهاءً بمحمد صلى الله عليه وسلم يقوم على حرية الاختيار بين الطاعة والمعصية {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} (الكهف 29)، والرسالة المحمدية أتت رحمة للعالمين، وختم الله بها الرسالات وأغلق باب التحريم، وأعلن فيها {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة 256)، فالإيمان بالطاغوت هو عكس الإيمان بالله، ومن يكفر بالطاغوت ويؤمن بشعار {لا إكراه في الدين} هو من {استمسك بالعروة الوثقى}.
ونص الرسالة المحفوظ في التنزيل الحكيم هو نص نظري مجرد، لكن تطبيقاته خاضعة للاجتهاد الإنساني، ومن هنا جاءت صلاحيته لكل زمان ومكان، وأول تطبيقاته كانت في دولة النبوة، حيث اجتهد النبي في تنظيم الحلال، بالمنع والإطلاق، بما يتناسب مع مجتمعه، واتخذ قرارات في السلم والحرب من مقام النبوة، وليس الرسالة، ومن بعده اجتهد الصحابة أيضاً تأسياً به، ثم أتى الفقهاء والأئمة فجعلوا من هذه الاجتهادات دستوراً أسموه الفقه الإسلامي تسلطوا من خلاله على رقاب العباد، وبدل أن تكون مهمة المفتي الاجتهاد لعصره ، أصبح موقعاً عن الله يحرم ويحلل ويشرع مستنداً لأحاديث جرت صناعتها وفق ما اقتضته مصالح الحكام وهاماناتهم، وأصبح من يحيد عن هذا الفقه ويسمح لنفسه بالاجتهاد وفق أرضيته المعرفية والمجتمعية، كالأنظمة الوضعية وبرلماناتها، يصنف في زمرة {من لم يحكم بما أنزل الله} فهو من (الكافرين أو الظالمين أو الفاسقين).
وكرس الفقه الإسلامي مفهوم “الحاكمية الإلهية” بتحويل الإسلام إلى إيديولوجيا، ورفعت حركات الإسلام السياسي في القرن العشرين شعار الحاكمية، متقيدة بأحكام السياسة الشرعية المتعارف عليها في المنظومة الفقهية التراثية، متجاهلة أن نصوص الفقه هذه أصبحت متجاوزة زماناً ومكاناً، ووضعت ضمن أطر مرحلية معينة، فلا يمكن إلا أن تكون تاريخية فقط.
وهذا التعريف الإيديولوجي للدين الإسلامي لا ينسجم أبداً مع مفهومه الذي جاء في التنزيل الحكيم، والحاكمية الإلهية كما وردت في التنزيل الحكيم تتلخص في الآيات المحكمات (تسعة عشر آية وفق إحصاءاتنا) تشمل الصلة مع الله والمحرمات والأوامر والنواهي إضافة للشعائر، كعناوين رئيسية، يتم الاجتهاد في تفصيلها (آيات تفصيل المحكم) وفق الظروف الموضوعية لكل عصر، وبالحركة ضمن الحدود تطبيقاً للحنيفية التي يتميز بها دين الله، وهذا ما يلخصه قوله تعالى {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (يوسف40)
والرسالة المحمدية بخصائصها الثلاث، الخاتمية {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (الأحزاب 40)، والعالمية والرحمة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء 107)، تتناغم مع الفطرة الإنسانية وتنسجم مع كل أهل الأرض، فلا يوجد قانون إلا ويجرم قتل النفس وقتل الأولاد ونكاح المحارم وممارسة الجنس علنياً والغش في المواصفات والقسم الكاذب وشهادة الزور والسكر، ولا يوجد قانون ينص على الإلزام بأكل لحم معين دون آخر، والفطرة الإنسانية تتناغم مع بر الوالدين والقسط لليتامى، والشرائع حدودية تبدأ من العفو وتنتهي بالإعدام (للقتل العمد فقط)، وبالتالي يمكن اعتمادها كمرجعية أخلاقية في أي دستور، أما الشعائر فلا يحق لأي سلطة مهما كانت، منع أو إكراه أحد على أداء الشعائر، وأدائها أو عدمه لا يعطي أحقية سياسية أو اجتماعية لأي كان، ولكل فرد في المجتمع الحق بإقامة علاقة مع ربه وفق ما يرتضيه لنفسه من معتقد، والاختلاف سنة الله في خلقه {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} (الحج40) وكما يحق للمسلم المؤمن بالرسالة المحمدية إقامة مساجد يحق للمسلم المسيحي إقامة الكنائس، وللمسلم اليهودي إقامة الكنس، وللبوذي إقامة معابده، على ألا يتدخل الدين في الدولة.
ما أريد الوصول إليه من كل ما سبق، أن الإسلام كدين لا يتعارض بشكل من الأشكال مع إقامة دولة مدنية يتساوى جميع أفرادها أمام القانون، وتتأسس على نظام من العلاقات قائم على الحرية والعدل في الحقوق والواجبات، بحيث تصبح القيم الإنسانية تمثل ثقافة المجتمع الذي يتأسس انطلاقاً من مبدأ الاتفاق على احترام القانون، ويصبح تعريف الفرد في هذه الدولة قانوني اجتماعي فيسمى “مواطناً”، وللأسف نحن كأفراد فقدنا مفهوم المواطنة، حيث لا وجود للقانون إلا في الكتب.
والمواطن في الدولة المدنية هو الفرد الحر في اختياراته، سواءً في متطلبات حياته أم في عقيدته ومذهبه، أم في آرائه السياسية واختيار ممثليه في السلطة التشريعية، وهو في الوقت عينه مسؤول أمام الله والمجتمع عن هذه الاختيارات.
والمواطنة لا يمكن أن تتحقق إلا في ظل الديمقراطية الليبرالية التي تعد شرطاً أساسياً لتحقيق الاتفاق العام في المجتمع، بحيث تتيح الفرصة للتنافس الحر بين مختلف التوجهات السياسية، وفي حين يرى منظري المنظومة التراثية في الديمقراطية “كفراً” لأنها تبتعد عن المفهوم المؤدلج للحاكمية الإلهية، وفي الليبرالية “مجوناً” لأنها وفق ما يرون تدعو للتحرر من القيود الدينية والفكرية والاجتماعية، فيفضلون بقاء الشعوب تحت سيطرة الطغيان، يتحسس بعض المفكرين الغربيين من الدين ويتخوفون منه بسبب تاريخهم الدامي مع الكنيسة وحاضرهم مع الجماعات الإسلامية المتطرفة، بينما نجد من الضروري إدراك الشعوب العربية في بلدان الثورات، أن الإنسان خلق حراً كريماً يحق له أن يقرر مصيره بنفسه، وأن الديمقراطية الليبرالية هي أرقى نظام اجتماعي سياسي توصلت إليه الإنسانية، ولنأخذ العبرة من القصص المحمدي في القرآن الكريم، حيث وردت الشورى كقيمة إنسانية مطلقة في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران159) و{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى 38).
وتبنى الدولة المدنية على ثلاثة مبادئ رئيسية هي: الميثاق والدستور، فصل السلطات، المواطنة.
والميثاق هو رباط طوعي يقوم على الثقة، وهو يسبق الدستور، وبالنسبة للمسلم هو التزام أمام الله، يحدد شروط الانتساب إلى المجتمع طوعياً لا قسرياً، والتعهد به ضروري لقيام أي دولة مدنية، لا دولة راعي وقطيع دون أي مرجعية أخلاقية.
ومن خلال القراءة المعاصرة للمرجعية الإسلامية، أقدم ميثاق المواطنة كنموذج لبناء مجتمع مدني (كنت قد نشرته في كتابي “الدين والسلطة” الصادر عن دار الساقي) يمكن أن يكون الطريق إليه ما زال طويلاً، وهو باختصار كما يلي:
- الحرام شمولي وأبدي ومن حق الله وحده حصراً ولم يعطه لأحد، والتشريعات متغيرة ومتطورة لا تحمل صفة الأبدية والشمولية.
- تبنى الدولة على عقد اجتماعي بين المواطنين والسلطة، بحيث يحترم كل طرف بنود وشروط هذا العقد.
- الطريقة الوحيدة للوصول إلى الحكم هي الانتخابات وقبول مبدأ تداول السلطة، والشعب هو صاحب الحق الوحيد في منح الثقة للمنتخبين أو سحبها منهم.
- المواطنون جميعاً متساوون في الحقوق والواجبات، فلا يسمح بأي تمييز على أساس الدين أو القومية أو العرق، وبالتالي يجب إلغاء كلياً مفهوم “أهل الذمة” لأنه متجاوز تاريخياً وفيه إخلال بحقوق المواطنين.
- المرأة صنو الرجل في الخلق والمسؤولية والعمل والكسب والقوامة والإرث.
- الحرية والعدل قيمتان مطلقتان يمارسهما الإنسان في مجتمعه بشكل نسبي، لكن دائماً يجب أن تسبق الحرية العدالة أينما وردتا (طالما رفع المستبدون شعار العدالة وأهملوا الحرية)، والديمقراطية هي أفضل شكل توصل إليه الإنسان لممارسة الشورى.
- بما أن المعرفة والتشريع هما نتاج نفخة الروح في الإنسان، فإن حق الإنسان في اكتساب المعرفة وحقه في انتخاب ممثلين عنه للتشريع، هما من الحقوق المقدسة.
- فصل السلطات مبدأ أساسي في الدولة، فلا يحق للسلطتين التنفيذية والقضائية ممارسة التشريع.
- التعددية الحزبية في المجتمع المدني ضرورة أساسية تضمن الرقابة على السلطة والدولة، فحرية تشكيل الأحزاب والمنتديات وإصدار الصحف والمجلات حق أساسي لكل مواطن.
- المعارضة هي البنية الأساسية للعمل السياسي، وهي أفضل آلية نسبية توصل إليها الإنسان لممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- تعتبر الدولة أكبر مؤسسة في المجتمع قابلة للفساد والرشوة، لذلك فهي المحتاج الأول للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه مهمة المعارضة ومنظمات المجتمع.
- على سلطة الدولة الالتزام بالمرجعية الأخلاقية في تسييرها للمجتمع، دون تدخل في حياة الأفراد الشخصية بالإكراه، وعليه يجب ألا يكون ثمة أي بند في الدستور يشير إلى أن “الإسلام دين الدولة” بل يجب أن يذكر في الدستور أن “القيم الإسلامية هي المرجعية الأخلاقية للدولة” وهي فوق الدستور.
- إن بند تطبيق ما يسمى الشريعة الإسلامية، وخاصة في الأحوال الشخصية، يبقى خيار كل فرد على حدى.
- حماية كرامة الإنسان واجب على سلطة الدولة، والعمل على نشر قيم العدل والمساواة في المجتمع.
- المرجعيات العرفية والمعرفية والجمالية هي مرجعيات متطورة، خاضعة للظروف الزمانية والمكانية.
- لا يحق لأحد، فرداً أم حزباً أم جماعة، ادعاء الوصاية الفكرية والسياسية على الناس، وتوزيع الألقاب والتهم عليهم دون بينة.
- لا يحق لأي هيئة تملك الأكثرية في المجالس المنتخبة التصويت لإلغاء أي حق من حقوق الأقليات السياسية والدينية والعرقية والحريات الشخصية، لأن هذه حقوق غير قابلة للتصويت.
- لكل الناس الحق في محاكمة عادلة، ولا أحد فوق المساءلة في الدولة فرداً كان أم حزباً أم مؤسسة.
- الشريعة الإسلامية الواردة في الرسالة المحمدية شريعة حدودية لا حدية، ومعظم التشريعات الإنسانية في المجتمعات المدنية الصادرة عن البرلمانات هي ضمن حدود الله، وتحتمل الاختلاف حسب الزمان والمكان وكلها مقبولة، وهذه هي الحنيفية.
- الناس أحرار في التعبير عن آرائهم بجميع الوسائل المتاحة السلمية، وفي حال مصادرة هذه الحرية أو قمعها تصبح كلمة الله هي السفلى، ويصبح الجهاد ضرورياً لاستعادة هذه الحرية وضمان العدالة النسبية في المجتمع، وهو الجهاد في سبيل الله ولا يعني القتال واستعمال العنف حصراً.
- الإبداع المادي والفكري مصان في المجتمع المدني.
- العمل والجد والكسب والتوفير أمور مصانة لكل فرد في المجتمع لأن الأعمال والأرزاق غير مكتوبة سلفاً على أحد، بل مخلوقة موضوعياً وتدخل الإرادة الإنسانية الواعية فيها.
- المقاومة في سبيل الدفاع عن الوطن سواء ضد المحتل الخارجي أو الداخلي واجب على كل أفراد المجتمع ويمثل العقيدة الجماعية للمواطنين وأهم التزامات المواطنة.
- بما أن المسلمين هم كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً والتزم بالصراط المستقيم، فإن مفهوم الجزية هو مفهوم سياسي بحت، والضرائب هي القاسم المشترك لجميع أفراد المجتمع.
د. محمد شحرور