القليل من السياسة مفيد …
كثيرا ما قرأت عن فنانين و كتاب و رجال أعمال و أناس عاديين انتحروا، و لكنني أبدا لم أقرأ يوما عن سياسي وضع حدا لحياته. بل في الغالب السياسي يعمر طويلا و يحافظ أكثر من غيره على قدراته الفكرية. فالسبسي نجح في قيادة تونس في عمر يناهز التسعين. و رئيس الحكومة السابق عباس الفاسي نجح في تسيير أحرج مرحلة عاشها المغرب و هو في السبعينات. و رئيس الحكومة الحالي السيد عبد الإلاه بنكيران تخطى الستينات، و لكن على ما يبدو فالستينات في العمر السياسي هي مرحلة الشباب و العطاء و النضج. كما أن عمالقة السياسة في المغرب من أمثال السادة عبد الرحمان اليوسفي و امحمد بوستة ما زالوا في أوج العطاء رغم تقدمهم في السن. فنادرا ما يستقيل السياسي نهائيا من عالم السياسة، فهو كالحوتة في البحر إذا استقال شاخ فجأة.
معظم السياسيين يمتازون بالمرح و روح الدعابة، فهم كثيري الضحك و المقالب و القفشات فيما بينهم، كما أن طريقتهم في إدارة الخلاف تتمايل بين الجد و الهزل، فلا تستطيع أن تميز متى ينتهي الأول و متى يبدأ الثاني. و بين الجد و الهزل يذوب الخلاف و يبدو بأنه ليس بذي معنى و بأن نشوة الحياة هي الأقوى.
السياسي يعيش حياته بين المد و الجزر، فالسياسة في تذبذب مستمر، و سهمه السياسي تارة في صعود و تارة في نزول، و هو بهذا من المفروض أن يعيش في قلق دائم كمن يتاجر في بورصة وول ستريت، و لكنه عكس ذلك تماما، فهو تعود على التعايش اليومي بين المد و الجز، فالاضطرابات و الضغوطات لم تعد تأثر فيه كثيرا، الممارسة السياسية اليومية أكسبته المناعة ضد سيناريوهات الحياة المعقدة. فبينما الشخص العادي الذي لم يتدرب سياسيا، قد تجده في مزاج عكر طوال اليوم فقط لأن جاره لم يرد عليه تحية الصباح أو لأن سيارته قد تعطلت فجأة، فإن السياسي المحنك قد يتعرض طوال حياته لاستفزازات و مضايقات كبيرة و لكنها لن تحرك فيه شعرة.
فالسياسة هي لعبة القوة ، و القوة المطلوبة ليست قوة الجسد و لا حتى قوة الفكر و لكنها قوة النفس. فالأول الذي سينهار هو من سيستسلم و سيخسر و سيتحول إلى تابع لمن أخضعه، و هكذا دواليك، و كل سياسي و موقعه حسب قدرة تحمله.
و يعتبر أسلوب الاستفزاز و فن حياكة السيناريوهات المعقدة من التقنيات التي يتفنن السياسيون في استخدامها فيما بينهم. و ربما لهذا السبب، معظم الناس يخافون من السياسة و يتوجسون منها و يرفضون الانخراط في الأحزاب و يحتفظون في الغالب بذكريات مزعجة حولها.
فمثلا، إذا كنت تمارس رياضة التيكواندو فإن معركتك مع خصمك ستنتهي بخروجك من القاعة، و إذا كنت تمارس الرسم فإنك ستنتهي فور خروجك من ورشة الرسم، و إذا كنت تمارس الكتابة فإن قلقك سينتهي بنهاية المقال أو الرواية… إلا حصتك السياسية، فهي لن تنتهي بخروجك من مقر الحزب. و ربما لهذا السبب معظم الناس لا يستطيعون تحمل حياة السياسي.
فممارسة القليل من السياسة و الانخراط في الأحزاب باعتدال مفيد جدا لأنه سيجعلك أكثر مناعة ذاتيا و أكثر قوة و قدرة على التحمل، و سيجعلك تنظر إلى الصراعات الوهمية و المفتعلة بطريقة مختلفة تتأرجح بين التجرد و اللامبالاة حتى لو حاولوا إقحامك كطرف فيها، كما أنه سيجعلك أكثر تسامحا و تعايشا. إلا أن الانغماس الكلي في السياسية و صراعاتها قد يكون مدمرا للفرد خاصة إذا لم يحاول أن يفهم أصل الصراع، أو لم يكن قادرا على تحمل حياة السياسي و حاول أن يكلف نفسه أكثر من طاقتها.
راديو تطوان-امال مسعود