الإطار المفاهيمي للصحافة الإلكترونية

شارك هذا على :

للحديث عن الإطار المفاهيمي للصحافة الإلكترونية، لا بد من معرفة المقصود من مفهوم الصحافة الإلكترونية، وكذا تعريف إعلام القرب، ودوره في تقريب المعلومة في ظل صحافة إلكترونية جهوية تنقل الخبر بكل سرعة ومصداقية.

لقد اتخذت الصحافة الإلكترونية أبعادا كثيرة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرون، وتعد الصحافة الإلكترونية المفهوم الأكثر تداولا على الساحة الإعلامية المغربية دون أي مفاضلة مع مصطلحات أخرى بديلة: “الصحافة الرقمية” أو “الإعلام الرقمي”، أو “المواقع الإخبارية الرقمية” أو “مواقع الإعلام الرقمي”.

لقد تنبه الكتاب الأبيض الذي عكفت وزارة الإتصال على إعداده من خلال تشكيل لجنة تضم باحثين في حقل الإعلام إلى إشكالية المصطلح، إذ أقر الكتاب أنه هناك صعوبات بالغة في تحديد مفهوم الصحافة الإلكترونية، حيث “تواجه الصحافة الإلكترونية المغربية عدة تحديات ابتداء من فوضى المصطلح التي تطبعها، إذ ما يزال الجدل اليوم قائما حول المفاهيم المؤسسة للحقل، كتلك التي ترتبط بماهية الصحافة الإلكترونية وتعريف الصحافي المهني الممارس في مجال خدمة الصحافة الإلكترونية، ينضاف إلى ذلك تحديات البيئة التكنولوجية وتأهيل القطاع والنموذج الإقتصادي وتحديات المضمون الرقمي وكذا أخلاقيات المهنة”.

وقد فعل حسنا المهتمون بالصحافة الإلكترونية بعد أن تم الإعتماد على مضامين الكتاب الأبيض لمقاربة مفهوم الصحافة الإلكترونية المغربية من خلال ما تمليه بواعث رئيسية، وقد كنا تحدثنا عنها في مقدمة البحث، وتقترن أساسا بشح المادة المرجعية في هذا الباب، “وعلى الرغم من إدراك الكثيرين بيننا لأهمية الإعلام ودوره التنموي، إلا أن هناك شبه غياب تنظيري للقضايا التي يطرحها إعلام عصر المعلومات وانعكاساته على تضاريس واقعنا العربي”.

وهذا ما جعل الواقع يهتم بمفهوم الصحافة الإلكترونية الذي توقف الكتاب الأبيض طويلا عند إشكالية مفهومها، خصوصا بعدما أبرزت مراحل تطور الصحافة الإلكترونية قوتها حتى باتت اليوم تنافس باقي وسائل الإعلام الأخرى بشكل كبير.

وإذا كنا سنكتفي في هذا المبحث بالتوقف فقط عند إشكالية التعريف، فإننا من خلال هذا البحث سنحاول الإجابة على أهم الأسئلة التي صاحبت ظهور الصحافة الإلكترونية بالمغرب.

وعلى العموم، يمكن القول في هذا الباب أن الصحافة الإلكترونية بالمغرب بدأت تتبلور بشكل محتشم في البدايات الأولى للعقد الأول من القرن 21، ثم ما فتئت تحقق نموا كبيرا بفعل تظافر مجموعة من العوامل ذكرنا بعضها آنفا، بيد أن الصحافة الإلكترونية المغربية “عرفت ارتفاعا هاما خلال العقد الأخير، حيث ناهز عددها 500 موقع خلال سنة 2012، وهو ما يجعل نفاذ الإعلام الرقمي قويا جدا مع الإشارة إلى تزامن ذلك مع نقل عدد من ممارسي الصحافة المكتوبة تجاربهم إلى الشبكة العنكبوتية.

كما عزز هذا الحضور المتنامي للصحافة الإلكترونية مساهمتها في تنشيط الحياة السياسية والمجتمعية بالمغرب، وكذلك دورها في تجسيد السلطة الرابعة التي تمثل أحد روافد الديموقراطية”. ورغم أن أرقام المندوبية السامية للتخطيط تشير إلى أن نسبة الأمية بالمغرب لم تنزل بعد عن سقف 30% ، فإن انخراط المملكة فيما أصبح يسمى بـ “مجتمع الإعلام والمعرفة” يسير بخطوات متسارعة.

ويفسر وزير الإتصال السابق “محمد العربي المساري” مثل هذا التطور الذي تعرفه الصحافة الإلكترونية في بعض البلدان العربية رغم ارتفاع نسبة الأمية بـ “الوعي السياسي الذي صاحب موجات الربيع وانتقال المواطن العربي من مستوى وعيه بقضاياه الإجتماعية كالصحة والتعليم، إلى مستوى آخر ينطلق من القضايا السياسية في المقام الأول”.

حيث أن الدولة المغربية لم تكن بمعزل عن التغييرات التي عرفتها بعض الأقطار العربية، خاصة بعد سقوط ثلاثة أنظمة عمرت عقودا على رأس الحكم في مصر وليبيا وتونس، تغييرات أفضت إلى خروج مسيرات ضخمة قادتها “حركة 20 فبراير”، في هذه اللحظة بالذات استشعر المتابعون أهمية الإعلام الإلكتروني أمام تسارع وتيرة الأحداث والغليان الذي كان يسود الشارع آنذاك، وتبين بالملموس أن الصحافة الورقية لم تعد وحدها المتابع الرئيس لنبض الشارع بعيدا عن الرواية الرسمية، إذ “شكلت المواقع الإلكترونية متنفسا حقيقيا فتح في وجه شباب عشرين فبراير، وأفسحت لها المجال للتعبير عن مواقفها”.

وقد طرح الكثير من الباحثين في مجال الإعلام أسئلة متشعبة ترتبط بالإعلام الإلكتروني بعد التقلبات السياسية التي عرفها المغرب في ظرف أقل من سنة، أدت في نهاية المطاف إلى صعود الإسلاميين لتدبير الشأن العام لأول مرة في مغرب ما بعد الإستقلال، وكان الداعي وراء هذه الأسئلة القلق المتزايد من الإنتهاكات التي تطال القواعد المهنية، ناهيك عن النقاش القديم الجديد حول الوصول إلى مصادر الخبر والسبل الكفيلة بانتقال الإعلام الإلكتروني من الهواية إلى الإحتراف.

وبدأت تتشكل ملامح الصحافة الإلكترونية المغربية بعد الأدوار الريادية التي اضطلعت بها مواقع إلكترونية مغربية استقطبت شرائح مختلفة من الرأي العام المغربي، ولا غرابة أن نجد أن موقع “هسبريس” المغربي تعدى عدد زواره بشكل يومي 5000 زائر، بمعنى آخر، تجاوزت رقم مبيعات جميع الصحف المغربية التي تقدر بحوالي 400 ألف، بعدها بدأت مواقع جديدة من أمثال “لكم” و”فبراير” و”كود” و”بديل” و”طنجة 24″ و”شمال ميديا” و”نكتب”…، تستأثر باهتمام كبير من القارئ المغربي، مما قد يفسر توجه المتلقي نحو الصحافة الإلكترونية عوض الصحافة المقروءة من جرائد ومجلات.

لعل المتتبع للشأن الصحافي ببلادنا خاصة الصحافة الإلكترونية، سيرى جليا المقاربة الواضحة جدا، وهي أن الصحافة الإلكترونية أصبحت تقترن بإعلام القرب أكثر من أي وقت مضى، بالنظر إلى المنافسة الشرسة من طرف الصحافة المكتوبة والتلفزيون.

في هذا الصدد يجيب “عبد الوهاب الرامي”، الأستاذ بالمعهد العالي للإعلام والإتصال، على سؤال محوري حول أهمية مبدأ القرب في جانبه الإلكتروني، إذ يبرز أن “مبدأ القرب يمكن أن يحقق التمايز بين الصحافة الإلكترونية وباقي وسائل الإعلام الأخرى”، ويرى “الرامي” أن “القرب الجغرافي” ليس هو وحده من يحقق مبدأ القرب بقدر ما هنالك أبعاد أخرى يمكن أن تتولد عنه، وهي القرب النفسي والعاطفي، وهي أبعاد لا مندوحة من استحضارها في ممارسة الإعلام الإلكتروني.

ومن خلال الحديث عن الصحافة الإلكترونية، يتبين جليا من خلال السنوات التي ظهرت فيه “الصحافة المستقلة” بالمغرب أن الإهتمام بالأخبار الجهوية والمحلية كان ضعيفا، رغم أن الكثير من الجرائد الوطنية اعتمدت في استراتيجياتها لتطوير المحتوى المقدم إلى القارئ على انتداب العديد من المراسلين لتغطية المدن والأقاليم الكبرى، ومع ذلك فشلت معظم الجرائد الورقية في دفع القارئ إلى متابعة محتوياتها، ومع مجيء الإعلام الإلكتروني تغير الوضع كثيرا، وغدت المواقع الإلكترونية الجهوية مصدرا أساسيا لنقل المعلومات واستقاء الأخبار.

حيث أن الكلام عن مستقبل الصحافة الإلكترونية يستوجب الإشارة للكتاب الأبيض، الذي اعتبر مسألة ترسيخ مبدأ إعلام القرب مدخلا أساسيا لتحسين محتوى ومضمون الصحف الإلكترونية، إذ “تساهم الصحافة الإلكترونية في نشر وتوزيع الأخبار بشكل سريع فوري ومستمر، وبقدر قرب الصحافة الإلكترونية من المواطنين تزداد أهميتها ونسبة انتشارها، وتصبح هذه الصحافة تشاركية كلما عبرت بصدق ودقة عن آراء المواطنين وأفكارهم واحتياجاتهم ومخاوفهم، وأتاحت لهم التفاعل معها خاصة عن طريق إشراكهم في موادها التحريرية، ويبدو ملحا أن يتجه تطوير محتوى الصحافة الإلكترونية المغربية نحو تعزيز المحتوى المحلي والجهوي بشكل يعكس خصوصية الجهة ويوطن إعلام القرب”.

وتأسيسا على كل ما سبق، يمكننا أن نضيف بعدين لمبدأ إعلام القرب، فبالإضافة إلى البعد الجغرافي نجد للبعدين النفسي والعاطفي نصيبا، وما يمكن أن ينطويا عليه من محددات لهذه الأبعاد، وتتمثل أساسا في توظيف اللغة والحوامل الثقافية التي تسند مضامين المواقع الإلكترونية.

وبناء عليه، نقر بأن الكتاب الأبيض، وفي سياق جرد مداخل تطوير محتوى الصحافة الإلكترونية المغربية، وضع التدبير الخلاق للغات مباشرة بعد “تكريس إعلام القرب”، مما يؤشر على تواجد نوع من التلازم بين الحوامل اللغوية ومبدأ “قانون القرب”، ويعتبر استخدام اللغة العربية في الصحافة الإلكترونية المغربية جزءا من الواقع اللغوي الرقمي العربي الذي لم يحظ بالإهتمام الكافي من أجل بلورته على مستوى محركات البحث، ومن شأن استخدام اللغة العربية في نشر المحتوى الصحافي الرقمي أن يوسع قاعدة المستخدمين وزوار مواقع الصحف الإلكترونية، ويزيد من تفاعلهم مع كل ما ينشر من مواد”.

وقد أثبت الواقع لما للصحافة الإلكترونية من دور أساسي في إحداث إعلام للقرب ذو مصداقية وشعبية، خاصة بعد تعاقب أحداث جهوية ومحلية لم تجد الصحافة المقروءة والمرئية وسيلة لنقلها عن كثب، وإيلائها العناية اللازمة والتزام الحياد في أحداث سياسية تمس بالنظام العام أو بالأخلاق الحميدة، سواء منها أحداث مدينة تازة أو بني بوعياش أو جريمة اغتصاب 11 قاصرا من “البيدوفيلي” الذي كان قد استفاد من العفو الملكي، ولولا فضح بعض المواقع الإخبارية الإلكترونية لمثل هذه الأحداث التي لم يكن للصحافة الأخرى أي دور في نشرها، لما كان القارئ المغربي قد ألمَّ بها وعلمها من أصله.

وعند تحدثنا عن مفهوم إعلام القرب، فإنه بالضرورة يشير إلى البعد الجغرافي للمسألة كما أقررنا، بيد أن إطلاق مصطلح “القرب” على المعلومة والإعلام يعد خطأ جسيما، لأن الإعلام الجديد اليوم أضحى كفرد عائلي في كل الأسر المغربية تقريبا.

وقد يقول قائل: كيف يكون للإعلام الجديد هذه المثابة وهناك أسر تعيش في البوادي، وأسر معوزة تفتقر إلى الأنترنت مثلا؟

نقول: إن الإعلام الجديد ليس مقتصرا على الأنترنت بكل روافده وقنواته من مدونات ومواقع وجرائد ومجلات إلكترونية، بل إن الحملات الإشهارية كلوحات الشوارع والملصقات الضخمة الملونة والمضاءة هي من الإعلام الجديد، ومن شأنها إيصال المعلومة والخبر لعموم الناس.

إذن فإعلام القرب هنا مرتبط بالمجال الجغرافي، وبمعنى آخر، فهو شديد الإلتصاق بما نطلق عليه اسم “الصحافة الإلكترونية الجهوية”، إذ أن كل باحث يود الحصول على أخبار مدينة من مدن المملكة، ما عليه سوى كتابة اسم مدينته على مواقع البحث الشبكي وستظهر له كل القنوات الإلكترونية التي تهتم بهذه المدينة أو الجهة بشكل عام.

إن الصحافة الإلكترونية ظلت تتسع في كل بقاع العالم إلى أن وطنت أركانها بالمغرب، واستنفرت وزارة الإتصال كل أجهزتها وأذرعها للبحث عن مداخل لتطويرها وضبطها بالشكل الذي يتناغم مع المواصفات المهنية، حيث بات لزاما النظر إلى دور الصحافة الإلكترونية الجهوية بعد “التراجع الكبير للمطبوعات والصحف الجهوية وغلبة الطابع المركزي على الصحف الوطنية”.

لقد شكلت الصحف الجهوية طيلة فترة الإنفراج السياسي الذي عرفه المغرب مع بداية العقد الأخير من القرن العشرين، لاسيما عندما أطلق سراح معارضين سياسيين شرسين لنظام الملك الراحل الحسن الثاني في مقدمتهم “أبرهام السرفاتي”، – شكلت – البوابة الرئيسية لسكان الجهات لمتابعة الشأن المحلي، وظهرت صحف كثيرة، بل إن البعض منها كان قائما قبل هذه الفترة مثل جريدة “الشمال” بطنجة التي يديرها الصحافي المخضرم “خالد مشبال”، وهكذا ظهرت جرائد “أخبار تادلا” و”صوت الشرق” و”تيفراز ناريف” …إلخ.

بيد أنه سرعان ما تراجعت هذه الصحف بفعل تحديات اقتصادية محضة وضعف الإستشهار وغياب المطابع، إذ عانت الصحافة الجهوية المكتوبة من عوائق كثيرة وهي تواجه سؤال البقاء أمام غياب المطابع وتركزها في دائرة ضيقة لا تتجاوز الرباط والدار البيضاء، مما “حذا بوزير الإتصال السابق “محمد العربي المساري” في عهد حكومة التناوب التي قادها “عبد الرحمان اليوسفي”، إلى التفكير في إنشاء مطابع جهوية، لكن مغادرة “المساري” الحكومة حال دون ذلك”.

إن التذكير بهذه الصيرورة قد يسعف في فهم بعض ميكانيزمات اشتغال المواقع الإلكترونية الجهوية التي أصبح البعض منها يتوفر على مقرات وعلى مكاتب بفضل المداخيل المادية، حيث أن المشكل الإقتصادي بدأ يتوارى بالنظر إلى الكلفة المنخفضة لإنشاء المواقع الإلكترونية، لكن سؤال أخلاقيات المهنة ظل أكثر إلحاحية، بل شكل الحلقة الرئيسية في كل النقاشات التي همت موضوع الصحافة الإلكترونية بشكل عام.

ويتضح أن المواقع الإلكترونية الجهوية ما فتئت تبث مكانتها في المشهد الإعلامي الوطني، فلقد أظهرت نتائج الخبرة، والتي قام بها بعض المتتبعين، حول أي حد تستعين الصحف المكتوبة بالمواقع الجهوية، فوجدوا أن أغلب هذه الصحف اعتمدت في تغطيتها لأحداث العرائش وتازة وبني بوعياش بشكل لا يدع مجالا للشك على رواية المواقع الإلكترونية في ظل غياب المراسلين والتأكد من مكان الخبر.

يبدو هذا واضحا في تغطية جريدة “الصباح” في ثلاثة أعداد متوالية لأحداث تازة، حيث كان موقع “تازة سيتي” سباقا إلى نقل الأخبار وإفراد تغطية خاصة لما يجري هناك، في حين اكتفت جريدة “الصباح” بإيراد ما نقله الموقع المشار إليه سلفا.

نفس الشيء ينسحب على جريدة “أخبار اليوم” التي وجدت في تغطيات المواقع لأحداث بني بوعياش المادة الخام لمتابعة الأحداث. “المساء” كذلك لم تشذ عن القاعدة في تغطية أحداث العرائش بالإستناد على المواقع الإلكترونية الجهوية العاملة بالمدينة.

على هذا النحو، يمكن أن نثبت أن المواقع الإلكترونية الجهوية أمست، مع توالي الأيام، ضرورة ملحة يفرضها الإعلام الرقمي والمشهد الإعلامي المغربيين، رغم عدم وجود قواعد مهنية وأخلاقية واضحة تؤطر محتوياتها، الأمر الذي أطلق عليه الكتاب الأبيض المتعلق بتأهيل الصحافة الإلكترونية بـ “تقهقر النص الصحافي المكتمل”، بمعنى أن مهنيي الصحافة التقليدية لا يميلون للتعبير إلا على ما يتصورونه ناضجا ومكتملا إعلاميا.

وقد كان هناك مبدأ سائد يفترض أنه بإمكان وسيلة إعلامية واحدة الوصول إلى الحقيقة وامتلاكها، وبالتالي التعبير عنها في خطابها الصحافي العام، كما كسرت الصحافة الإلكترونية مسألة احتكار الحقيقة التي أصبحت تنتج بشراكة مع الجمهور، وكذا بتضامن بين كافة الوسائل الإعلامية”.

نور أوعلي (باحث في القانون والإعلام)

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.